للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومعلوم أن كل متعاطي صناعة هو مفتون بسمعة أساطينها ونوابغها. فالذي دعا أهلَ الأدب العربي إلى نزعة النسج على منوال المتقدمين أن الذي يفرع منهم ذروة البلاغة لا يزن هواة ذلك الفن مقداره إلا بميزان قربه من مشاهير أهل صناعتهم، فذلك الذي كان يبعث فحول شعراء الإسلام على التشبه في شعرهم بفحول الجاهلية تحديًا للناقدين ابتداءً، ثم لا يلبث ذلك التحدي حتى يصير لهم عادة، فلا يزالون يُعْجَبون بانتفاء الفروق بين شعرهم وشعر العرب القح؛ لأن الموازنةَ بين الشعرين تكون أمكنَ متى اتحدت طريقةُ الشعرين.

ولم يزل المحكمون في الأدب وفي العلوم يشترطون على المتناظرين وَحدةَ الموضوع. وعلماء الأدب يكلّفون المتأدبين نظمَ القصائد في الغرض الواحد والوزن والروي ليظهر القرب والبعد في الإجادة، كما يشهد بذلك اشتراط بديع الزمان وأبي بكر الخوارزمي على أنفسهما محاكاةَ قصيدة أبي الطيب: "أرَقٌ على أرقٍ ومثلي يأرَقُ" في مناظرتهما في الأدب. وبذلك يتبين صنيعُ الحريري في التحدي بمحاكاة شعر البحتري في المقامة الثانية (١)، وليس في المولَّدين من إذا أراد أن يشابه العرب في شعرهم شابههم مثل بشار، وخذ مثالًا من ذلك قصيدته التي طالعها - وهي في الديوان (٢) -:

طَرِبْتَ إِلَى "حَوْضَى" وَأَنْتَ طَرُوبُ ... وَشَاقَكَ بَيْنَ "الأَبْرَقَيْنِ" كَثِيب


(١) انظر "المقامة الحلوانية" في: الحريري، أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان: مقامات الحريري المسمى بـ المقامات الأدبية (بيروت: دار الكتب العلمية، بدون تاريخ)، ص ٢٤ - ٣١.
(٢) وهي تشتمل على ثمانية وثلاثين بيتًا من بحر الطويل، قالها بشار في النسيب بسعدى بنت صقلا بن قعقاع المالكية من بني بكر. ديوان بشار بن برد، ج ١/ ١، ص ٢٠٨ - ٢١٤. و"حوضى" اسم مكان ورد في شعر النابغة، و"الأَبرقان": تثنية أبرق، جبل فيه لونان من رمل وحجارة فيكون أسود أبيض. والأبرقان: اسم غلب على أبرق حجر اليمامة، وهو منزل بعد رميلة اللوى من طريق البصرة للقاصد إلى مكة. المصدر نفسه، ص ٢٠٨ (الحاشية رقم ١). وعبارة "وهي في الديوان" جاءت في الأصل بعد البيت مستغرقة مساحة سطر كامل، وقدمناها لغرض التحكم في تنسيق النص.

<<  <  ج: ص:  >  >>