وأقول: إن العرب قبائلُ شتى منتشرة. ولَمَّا دخلوا في الإسلام تطوحوا في الفتوح وتفرقوا، وما انبرى علماء العربية للسعي في استقراء اللغة إلا في منتصف القرن الأول بعد الهجرة. وقد انقرض جمٌّ غفير من العرب، وليس بيد الناس من الكلام العربي غيرُ القرآن، فقيّد رواة اللغة ما استطاعوا تقييده مما وعته حوافظُ أبناء العرب من شعرهم ومُلحهم وأمثالهم ومحادثاتهم، ومما تلقوه بالسماع من البقية الباقية من العرب في البوادي، مثل العجَّاج ورؤبة وذي الرمة، ومن محادثة بعض الرواة في تَطْوافهم بالبوادي العربية، فدوّنوا من ذلك ما يرجع إلى النوعين المبدَّإِ بهما هذا المبحث بأقسامهما، وسَمّوه بالقياسي وبالجاري على القياس، لأن لكل متكلّم بالعربية أن ينطق بالألفاظ الداخلة تحت ذينك النوعين.
وقد اختلفوا في القياس على ما عدا ذينك، ومعنى القياس أنه إلحاق كلامٍ غير ثابتةٍ كثرةُ استعمال نظيره عن العرب بكلام ثابتٌ عنهم كثير استعماله؛ لمساواة الكلامين فيما يوجب ذلك الإلحاق. والمراد بمخالف القياس ما كان من التصرفات مخالفًا للنظائر الكثيرة الثابتة في كلام العرب، ولو كان هو بخصوصه ثابتًا في كلام العرب.
فأما الشاذُّ فالمراد به ما لم يُسمع عن العرب إلا نادرًا، فقد يكون قياسًا، وقد يكون مع شذوذه غير قياس. فإذا اجتمع الشذوذُ ومخالفةُ القياس فاستعمال ذلك الذي اجتمع فيه الأمران قبيحٌ عندهم. وإذا انفردت مخالفةُ القياس مع الشيوع فالاستعمال جائز. وإذا انفرد الشذوذ مع القياس فهو محل خلاف بينهم. وهنالك قسم آخر، وهو أن يكون اللفظ جاريًا على القياس وغير مسموع من العرب. قال ابن جنّي:
"يقلُّ الشيء وهو قياس، كقولهم في النسب إلى شَنُوءة: شَنَئِيّ، فلك في النسب إلى حَلوبَة أن تقول: حَلَبِيّ، وإلى رَكوبة: رَكَبيّ، لأنهم أجروا فَعُولَة مجرى فَعِيلة. فكما قالوا في حنيفة حَنَفيّ فكذلك قالوا في شنوءة، فجرت واوُ فعولَة مجرى ياء فَعِيلة، قال أبو الحسن الأخفش: إن قلتَ إنما جاء هذا النسبُ في حرفٍ واحدٍ، يعني شنوءة، قلت: هو جميعُ ما جاء، يعني أن الذي جاء هذا النسبُ في فَعُولَة هو هذا الحرف (أي الكلمة)، والقياس قابِلُه، ولم يأت فيه شيء ينقضه، فإذا قاس الإنسان