للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا السبب هو الذي لأجله أعرض معظمُ المتأدبين عن شعر شعراء الجاهلية، ولولا الحاجة إليه من ناحية الاحتجاج للغة العربية والنحو والبلاغة لمُني شعر الجاهلية بمثل ما مُني به شعر بشار من الإعراض عنه والزهادة فيه. فتلاشي شعرِ بشار قد توارد عليه من هذه العلة سببان للتلاشى هما: زهد المتأدبين وهو مفضٍ إلى التلاشى غير مقصود به، وكثرةُ السارقين وهو نشأ عن قلة تداوله بين الناس.

والسرقةُ مما يتعمّد معها الإتلاف، فإن السرقة تُحدث ضراوةً في نفس صاحبها بتعمد إخفاء سرقته بكل وسيلة، فإذا علم قلةَ أصول ما أخذ منه سرقاتِه عمد إلى اضمحلالها، فقد يصادف أن يضمحل كلُّه بمصادفة آخر نسخة منه، وقد تنجو نسخةٌ ضئيلة أو أوراقٌ قليلة.

ذكر أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة سَلْم الخاسر أنه أنشد الرشيدَ قصيدتَه التي أولها: "حضر الرحيلُ وشُدّتْ الأحداجُ"، فلما انتهى إلى قوله:

نَزَلَتْ نُجُومُ اللَّيْلِ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ ... وَلِكُلِّ قَوْمٍ كَوْكَبٌ وَهَّاجُ

قال جعفر بن يحيى البرمكي - وكان يكره سَلْمًا -: "أمن قلةٍ حتى تمدح أمير المؤمنين بشعر قيل في غيره؟ هذا البيت لبشار في فلان التميمي، فقال الرشيد: ما تقول يا سلم؟ فقال: صدق يا سيدي، وهل أنا إلا جزءٌ من محاسن بشار، وهل أَنْطِق إلا بفضل منطقه! وحياتك يا سيدي إني لأروِي له تسعةَ آلاف بيت ما يعرف أحدٌ غيري منها شيئًا، فضحك الرشيد وقال: ما أحسن الصدق! " (١)


= يمدح أبا شجاع عضد الدولة ويودعه في أول شعبان سنة ٣٥٤ هـ (وهي السنة التي فيها قتل)، وطالعها: "فِدًا لَكَ مَنْ يُقَصِّرُ عَنْ مَدَاكَا". البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج ٣، ص ١٢٢ - ١٣٤.
(١) كتاب الأغاني، ج ١٩، ص ٢٨٦ (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج ٧/ ١٩، ص ١٩٩ (نشرة الحسين).

<<  <  ج: ص:  >  >>