حروب الردة تغليبًا؛ لأن غالب العرب قد كفروا. وحاشا أبا بكر والصحابة أن يجعلوا الخروجَ عن بيعة أبي بكر كفرًا لقصد التهويل.
وأما قوله: إن عليًّا وسعدًا رفضا بيعة أبي بكر، فهو افتراء على صحابيين جليلين. فأما عليٌّ فقد شغله ما أصابه من وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم من مرض زوجه فاطمة رضي الله عنها، كما اعتذر به هو نفسه عن تخلفه. وقد ذكر ابن عبد البر عن الحسن البصري عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال:"إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرض ليالِيَ وأيامًا ينادَى بالصلاة، فيقول: مروا أبا بكر يصلي بالناس. فلما قُبِض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرتُ فإذا الصلاة عَلَمُ الإسلام، وقوام الدين، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، فبايعنا أبا بكر". (١)
وقد قيل في تأخر علي - رضي الله عنه - عن البيعة مدة: إنه لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف أن لا يخرج إلى الصلاة حتى يجمع القرآن. فقد اتضح من هذا كله أن عليًّا - رضي الله عنه - كان معترفًا بصحة بيعة أبي بكر (رضي الله عنهما) غير رافض لها، وأن تأخره مدة قليلة كان لشواغل مهمة. والتخلف غير الرفض؛ فإن معنى الرفض أن يُطلب من أحد شيء فيأباه.
وأما تخلفُ سعد بن عبادة - رضي الله عنه - عن بيعة أبي بكر إلى أن توفي فهو الصحابي الوحيد الذي لم يبايع لأبي بكر، فلا بد من تأويل فعله بما يليق بصحابي جليل مثل سعد بن عبادة. ولعله لما رأى الأنصار قد أعدته للخلافة يوم السقيفة ثم رأى إجماع الصحابة على أبي بكر وانصرافهم عن بيعة سعد استوحش نفسَه بين الناس، وكان سعد رجلًا عزيز النفس فخرج من المدينة ولم يرجع إليها حتى مات بحوران من أرض الشام في خلافة عمر وقيل في خلافة أبي بكر، ولم يُنقَلْ عنه طعنٌ في بيعة الصديق ولا نواء بخروج.
(١) ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق علي محمد البجاوي (بيروت: دار الجيل، ط ١، ١٤١٣/ ١٩٩٢)، ج ٣، ص ٩٧١ (وقد ذكر ابن عبد البر قيس بن عبادة بين الحسن البصري وعلي بن أبي طالب).