للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتخلفُه عن البيعة لا يقتضي رفضَه لها، ولا مخالفته فيها، حتى يكونَ تخلفُه قادحًا في انعقاد الإجماع؛ إذ "لا يُنسب لساكت قول"، كما قال الشافعي (١)، لا سيما وقد قال جماعةٌ: إن مخالفة الواحد لا تضر انعقادَ الإجماع، كما تقرر في الأصول. ولم ينقل أحدٌ أن الصحابةَ طلبوا منه بيعة، ولا تحرجوا من تخلفه. وقد أشار إلى هذا المعنى ابن أبي عزة الجمحي (٢) حين قال بعد السقيفة:


(١) الشافعي، أبو عبد الله محمد بن إدريس: الأم، وبهامشه مختصر المزني (القاهرة: دار الشعب، بدون تاريخ، وهي على الأرجح مصورة عن نشرة المطبعة الأميرية ببولاق الصادرة سنة ١٣٢١ هـ)، ج ١، ١٣٤؛ الأم، ج ١٠: اختلاف الحديث، ص ١١٠ (نشرة رفعت عبد المطلب). وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه العبارة جاءت أثناء كلام الشافعي على الخلاف في مسألة "الساعات التي تُكره فيها الصلاة"، حيث قال: "ولَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلُ قَائِلٍ وَلَا عَمَلُ عَامِلٍ، إنَّمَا يُنْسَبُ إلَى كُلٍّ قَوْلُهُ وَعَمَلُه. وفي هذا ما يَدُلُّ على أَنَّ ادِّعَاءَ الإِجْمَاعِ في كَثِيرٍ من خَاصِّ الأَحْكَامِ ليس كما يقول مَنْ يَدَّعِيه". وقد اختُلف في ترتيب هذه المسألة وموضعها من الأجزاء المختلفة لكتاب الأم، اختلافًا راجعًا إلى أن ترتيب هذا الكتاب لم يكن من وضع الشافعي نفسه، وإنما تولى تلاميذه ذلك، ثم اجتهد مَن بعدهم في التصرف في صور الترتيب التي ألفوها في مختلف نسخ الأم توفيقًا وتعديلًا. ففي نشرة بولاق وضعت المسألة التي جاءت عبارة الشافعي فيها في "كتاب الصلاة"، بينما وضعت في النشرة التي حققها رفعت عبد المطلب في "كتاب اختلاف الحديث". انظر بصدد مشكلة ترتيب الأم مقدمة المحقق، الأم، ج ١، ص ١٣ - ١٦. وقد اعتمد علماء الأصول من الشافعية على عبارة الشافعي هذه في إنكارهم حجية الإجماع السكوتي، حتى عدها الإمام الجويني من ألفاظ الشافعي الرشيقة، فقال عند حديثه عن وجوه انعقاد الإجماع: "فإن من ألفاظه الرشيقة في المسألة: لا يُنسب إلى ساكت قول". الجويني، إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف: البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم الديب (المنصورة/ مصر: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط ٣، ١٤١٢/ ١٩٩٩)، ج ١، ص ٤٤٨.
(٢) وابن أبي عزة الجمحي لم أعثر له على ترجمة، ولا علمت على وجه اليقين اسمه، وأبوه هو أبو عَزة عمرو بن عبد الله الجمحي، شاعر من قريش، استخدم شعره في التحريض على المسلمين، أسر يوم بدر كافرًا، وعفا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ توسل إليه قائلًا: "يا رسول الله إني ذو عيال وحاجة قد عرفتها"، فصفح - عليه السلام - عنه. ثم عاد لما كان عليه، فلما كانت غزوة أُحد وأسر، طلب العفو مرة أخرى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُلسع المؤمن من جحر مرتين". انظر ترجمته في: ابن سلام الجمحي: طبقات الشعراء، ص ٩٩ - ١٠٠. ومن الصحابة من اسمه خارجة بن عمرو الجمحي، فربما كان هو صاحبَ الشعر المذكور، وعسى خبيرًا بالسير والتاريخ يأتينا في ذلك بالخبر اليقين بشأنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>