للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دين الإسلام، فأخذ والدي لوحًا من لوح الجوز كأني أنظر الآن إليه مملسًا من غير طفل ولا غيره، فكتب لي فيه حروف الهجاء، ويسألني حرفًا حرفًا عن حروف النصارى تدريبًا وتقريبًا، فإذا سميت له حرفًا أعجميًّا يكتب لي حرفًا عربيًّا، فيقول لي حينئذ: هكذا حروفنا، حتى استوفَى لي جميعَ حروف الهجاء في كرتين.

فلما فرغ من الكرة الأولى، أوصانِي أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمي وأخي وجميع قرابتنا، وألا أخبر أحدًا من الخلق. ثم شدد علي الوصية، وصار يرسل والدتي إلي فتسألني وتقول: ما الذي يعلمك والدك؟ فأقول لها: لا شيء، فتقول: أخبرني بذلك ولا تخف؛ لأني عندي خبر بما يعلمك، فأقول لها: أبدًا ما يعلمني شيئًا. وكذلك كان يفعل عمي، وأنا أنكر أشد الإنكار. ثم أروح إلى مكتب النصارى وآتي الدار فيعلمني، إلى أن مضت مدة، فأرسل إلي من إخوانه في الله الأصدقاء يسألونني فلم أقر لأحد قط بشيء مع أنه رحمه الله قد ألقى نفسه للهلاك لإمكان أن أخبر بذلك عنه فيُحرَق لا محالة، لكن أيدنا الله سبحانه وتعالى بتأييده وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته بين أظهر أعداء الدين.

وقد كان والدي رحمه الله تعالى يلقنني حينئذ ما كنت أقول عند رؤيتي للأصنام. . . إلخ. فلما تحقق والدي رحمه الله تعالى أني أكتم أمورَ دين الإسلام عن الأقارب فضلًا عن الأجانب، أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وعمي وبعض أصحابه والأصدقاء فقط، وكانوا يأتون إلى بيتنا فيتحدثون في أمر الدين وأنا أسمع. فلما رأى حزمي مع صغر سني فرح كثيرًا غاية [الفرح]، (١) وعرفني بأصدقائه وأحبائه وإخوانه في دين الإسلام، فاجتمعت بهم واحدًا واحدًا، وسافرت الأسفار لأجتمع بالمسلمين الأخيار من جبان إلى غرناطة وإشبيلية وطليطلة وغيرها من مدن


(١) زيادة اقتضتها سلاسة الكلام، إن لم تكن اللفظ سقطت أثناء نقل المصنف من كتاب ابن عبد الرفيع.

<<  <  ج: ص:  >  >>