للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المطلوب له إلا بعد تلافيها؛ فإن العددَ الأكثر منهم يَقدمُون على مدينة تونس متغربين عن أوطانهم في سبيل طلب العلم، ومن هذه الكثرة التي ينيف عددُها الألفين وخمسمائة نجد نحوَ النصف يأوي في بيوت المدارس التي تعاقبت على تأسيسها أيدي رجال الخير من عهد الدولة الحفصية إلى الآن، فيلجأون منها إلى بيوت تُوسِعها الضرورة لأكثرَ مما يسع وضعُها الذاتي، قد فقدوا منها مرافقَ الحياة التي تعدها الحضارة الحالية في الحاجات القريبة من حيز الضروريات.

ففي بيتٍ ضيقِ الأرجاء، قليلِ الهواء، كثير الرطوبة، فاقدِ الأشعة، يقضي ثلاثةٌ أو أربعة من شبان الطلبة حياتهم بين نوم واشتغال بالدروس وخزن للأزدواد وإيقاد وطبخ، فلا تزال زهرةُ شبابهم تذوي ومظاهرُ المرض والكلال تمتلك سنحاتِهم، وآثارُ الانقباض والكدر تشوِّشُ أفكارَهم، وتنقص من إقبالهم، وتفلُّ من حدة نشاطهم، حتى أثَّر هذا خللًا في سير التعليم، وانحطَّ بأبناء المعهد عن المستوى الذي يُراد وُصولهُم إليه بما يُقام عليه التعليمُ من برامج.

ومع ذلك فإن هذه الحالة التعيسة التي يقاسيها شطرُ الغرباء من الطلبة الآوين إلى بيوت المدارس تكاد تُعد جنةَ نعيم في مقابلتها بحالة الشطر الآخر الذي عجزت المدارسُ عن إيوائه حتى أصبح لسانُ حالهم متمثلًا في هذا بقول أبي الطيب:

مَاذَا لَقِيتُ مِنَ الدُّنْيَا وَأَكْثَرُهُ ... إِنِّي بِمَا أَنَا شَاكٍ مِنْهُ مَحسُودُ (١)

فإن نحوًا من ألف تلميذ - وأكثرُهم من تلامذة السنوات الأولى، قليلي الخبرة صغار السن - يأوون في مبيتهم إلى المنازل المعدَّة للغرباء وأبناء السبيل، مع ما في تلك الأوساط من الابتعاد عن كل ما تقتضيه حالةُ الطالب من الملاءمات المادية والأدبية. وهل من شكٍّ في أن جميعَنا يشعر بعارٍ يقدُّ فؤادَه حين يرى زهرةً من نابتة


(١) البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج ٢، ص ١٤٢. والبيت هو التاسع من قصيدة يهجو فيها كافورًا الإخشيدي، وطالعها: "عيد بأية حال عدت يا عيد".

<<  <  ج: ص:  >  >>