القواعد الشرعية أن هذه الأسباب لو وُجدت في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، لكانت هذه المسببات من فعلهم وصنعهم، وتأخر الحكم لتأخر سببه ووقوعه عند وقوع سببه لا يقتضي ذلك تجديدَ شرع ولا عدمه. . . وهذا القسم هو ما في زماننا من القيام للداخل من الأعيان وإحناء الرأس له، والمخاطبة بجمال الدين ونور الدين وغير ذلك من النعوت (المؤذنة بالرفعة). . . والتعبير عن المكتوب إليه بالمجلس العالي والسامي والجناب (المرفع) ونحو ذلك من الأوصاف. . . فهذا كلُّه ونحوه من الأمور العادية لم تكن في السلف، ونحن اليوم نفعله في المكارمات والمودات، وهو جائز مأمور به مع كونه بدعة. ولقد حضرت يومًا عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله، وكان من أعيان العلماء وأولي الجد في الدين، والقيام بمصالح المسلمين خاصة وعامة، والثبات على الكتاب والسنة، غير مكترث بالملوك فضلًا عن غيرهم، لا تأخذه في الله لومةُ لائم فقدمت إليه فتيا فيها: ما تقول السادة أئمة الدين وفقهم الله تعالى في القيام الذي أحدثه أهلُ زماننا مع أنه لم يكن في السلف، هل يجوز أم لا يجوز ويحرم؟ فكتب - رضي الله عنه - إليه في الفتيا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا - عباد الله - إخوانًا". (١) وترك القيام في هذا الوقت يُفضي للمقاطعة والمدابرة، فلو قيل بوجوبه ما كان بعيدًا. هذا نصُّ ما كتب من غير زيادة ولا نقصان".
ثم قال الشهاب:
"فعلى هذا القانون يجري هذا القسم، بشرط أن لا يُبيح محرمًا ولا يترك واجبًا، فلو كان الملكُ لا يرضى منه إلا بشرب الخمر أو غيره من المعاصي، لم يحل لنا
(١) جاء الحديث عن أبي هريرة وأنس بن مالك بروايات مختلفة ومتفاوتة قصرًا وطولًا، وزيادة ونقصًا، وتقديمًا وتأخيرًا، فانظر بشأنها على سبيل صحيح البخاري، "كتاب الأدب"، الحديثان ٦٠٦٤ و ٦٠٦٦، ص ١٠٥٩؛ "كتاب الفرائض"، الحديث ٦٧٢٤، ص ١١٦١؛ صحيح مسلم، "كتاب البر والصلة والآداب"، الحديث ٢٥٥٩، ص ٩٩٣؛ سنن الترمذي، "كتاب البرِّ والصلةِ"، الحديث ١٩٣٥، ص ٤٧٤.