للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن نواده بذلك، وكذلك غيره من الناس، "ولا طاعة في معصية الخالق"". (١) والْخُلُق - بضمتين - هو في الأصل مَلَكَةٌ نفسية تصدر عنها الأفعالُ بسهولة، فإذا صدرت عنها الأفعالُ الحميدة فهي الخلق الحسن، وإلا فضدُّ ذلك. ثم إن هذه الملكة لَمَّا كانت هيئةً للنفس لا يتعلق بها التكليفُ لذاتها، إذ ليست من الفعل في شيء. نعم! يتعلق التكليفُ بالأسباب المحصِّلة لها، الراجعة إلى التبصر، وحمل النفس على تحمل الضيم، ومكابدة الأذى، والعفو، وغير ذلك. فبتمرن النفس على الصفات الجميلة والآداب الممدوحة وبتعودها ذلك تحصل تلك الملكة، فتنشأ عنها تلك الصفاتُ بعد بسهولة بعد أن كانت شاقة في تحصيلها، ويرجع السببُ مُسَبَّبًا، وهو مناطُ التكليف والمدح والذم.

وبما بَيَّنَّا عُلِم أن الْخُلُقَ الحسن الذي هو مناطُ المدح والثناء مكتَسَبٌ من رياضة النفس والتأديب، ومن ثم كان خلقُه - صلى الله عليه وسلم - أشرفَ خلق حسن، كما شهد له بذلك الله تعالى في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} [القلم: ٤]، حيث كان تأديبه إلهيًّا ورياضته قرآنية، كما قالت الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: "كان خلقه القرآن". (٢) قال الإمام السهروردي في عوارف المعارف:

"وفي كلامها رضي الله عنها سرٌّ غامض؛ وذلك أن النفوسَ البشرية مجبولةٌ على طباع غضبية وبهيمية وسبعية. والله بعظيم عنايته نزع حظَّ الشيطان منه الذي هو شر الأولى فبقيت نفسه الزكية مبقاةً فيه أمهاتُ تلك الصفات فتتنزل الآيات لقمعها عند تحركها واضطرابها تأديبًا له - صلى الله عليه وسلم -، وهو قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: ٣٢]. فعند كل اضطراب تنزل آية لمصالح سنية يسكن بها، كما وقع


(١) القرافي: كتاب الفروق، ج ٤، ص ١٣٨٨ - ١٣٩٠.
(٢) الألباني، محمد ناصر الدين: صحيح الأدب المفرد (الجبيل الصناعية: مكتبة الدليل، ١٤١٨/ ١٩٩٧)، الحديث ٢٣٤، ص ١٢٩. وأخرجه مسلم بلفظ: "فإن خلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن". صحيح مسلم، "صلاة المسافرين وقصرها"، الحديث ٧٤٦، ص ٢٧٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>