وهذه الأقوال راجعةٌ إلى التأويل: إما بتأويل لفظ "أول"، أو بتأويل معنى البيت، أو بتأويل معنى الوضع، أو بتأويل المراد بالناس، أو بتأويل نظم الآية. ولا حاجةَ بنا إلى استيعابها استدلالًا وردًّا، إذ ليس ذلك من غرضنا.
والذي أراه وأجزم به - في معنى الآية - أن القرآن كتابُ شريعة وهدى، وليس من أغراضه تأريخُ المباني ولا تأريخُ أطوار مساكن البشر، فلا يَعبأ بذكر المباني غير الدينية، ولا بذكر الهياكل الدينية الضالة، وأن الآية مسوقةٌ - كما بيَّنَّاه آنفًا - للاستدلال على وجوب اتباع ملة إبراهيم، معنيًّا بها الإسلامُ ووجوب الحج. فتعين أن يكون المرادُ من الأولِ الأولَ في النوع، وبالبيوت بيوتَ العبادة الحقة والهدى إلى الحق.
وذلك أن الله تعالى بعث الرسلَ قبل إبراهيم فدعوا إلى عبادة الله وتوحيده، وكانت الأممُ في ضلالتهم إذا أشركوا بالله أقاموا لِمعبوداتهم ولشركائهم تماثيلَ وهياكل، كما فعل قومُ نوح وقومُ إبراهيم الكلدانيون. وقامت الرسلُ تدعو إلى التوحيد بالقول، ولكنهم لم يُؤمر أحدٌ منهم بأن يقيم هيكلًا ينادي فيه لعبادة الله ولتوحيده، ويناغي بذلك تماثيل المشركين، ويردد ذلك على مسامع الناس. (١)
فلما بعث الله إبراهيم، أمره بإقامة هيكل لعبادة الرب الحق الواحد ليدافع بذلك تظاهر المشركين، قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: ٢٦, ٢٧]. فكان بناء الكعبة رمزًا للتوحيد، ولذلك قال [تعالى]: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا}[الحج: ٢٦]، ثم قال:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}[الحج: ٢٦]؛ أي بالحج لله.
فاتخذ إبراهيم الكعبة ودعا الناس إلى الحج لعبادة الله الصادقة، فكان الحجُّ مجمعًا لأهل التوحيد يجددون ذكراهم ويدعون إليه من عداهم. وأقام ولده فيها
(١) انظر في شأن بيوت العبادة: الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل، ضبط أمير علي مهنا وعلي حسن فاعور (بيروت: دار المعرفة، ١٤٢١/ ٢٠٠١)، ص ٥٧٨ - ٥٨١.