للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحقيقٌ من بينها بذلك البلدُ الذي أراه الله، ووعده أن يعطيه ذريتَه بني إسرائيل. وإذ قد كان إسماعيل بِكرَ أولاد إبراهيم، كان الوعدُ بإعطاء ذريته بلادَ العرب سابقًا على الوعد بإعطاء بني إسرائيل بلادَ الشام، فظهر معنى الحديث أتَمَّ الظهور.

وهذا الوجهُ فيه بقاءُ الأولية على ظاهرها، وبقاءُ لفظ "الناس" على ظاهر عمومه، وإبقاء نظم القرآن على ظاهره، دون صرف الأولية إلى أولية مقيَّدة بالحال أو بالنسبة إلى بيت المقدس، وليس فيه إلا تأويلُ البيت بأنه بيت العبادة الحق. وذلك تأويلٌ قريبٌ لشيوع إطلاق البيت على بيت العبادة، ولأن قرينةَ السياق تقرِّب هذا التأويل. ويكون مناطُ التشريف والثناء هو الخبر بأن الكعبة أولُ بيت؛ إذ الخبر هو محطُّ الفائدة، ويكون الحالان في قوله: {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦)} زيادةً في تمجيده وتشريفه، وليس هما غرض المخبر؛ إذ ليس الحال عمدةَ الكلام، وكذلك ما بعدها من الصفات.

فكانت الكعبةُ بهذا أفضلَ المساجد، وإنما كانت أولية السبق مقتضية التفضيل؛ لأن هذا المسجد كان أصلًا للبقية، فكلُّ فضلٍ لغيره بعده يكون له منه حظّ، فلا يزال فضلُه يتزايد، ولأن مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة وقوع العبادة فيها، إذ هي في ذلك سواء، وإنما تتفاضل بما يحف بها من طول الزمان في عمرانها بالأنوار الملكية وبإخلاص مؤسسيها في تأسيسها. وأيُّ إخلاص أعظم من إخلاص تأسيس أصل معابد التوحيد الذي كانت المعابد بعده تقليدًا له ومحاكاةً لغرضه!

وإذ قد تَبَيَّنْتَ أن مساقَ الآية مساقُ الاستدلال على علة الأمر باتباع ملة إبراهيم، فكأنك قد استشرفتَ إلى بيان وجه هذا الدليل وكيف تمام التقريب فيه. (١) ووجهه أن الكعبة لَمّا كانت أولَ هيكل أقيم لإعلان توحيد الله وهو مبدأ الحنيفية، فقد ثبت


= غريغوريوس أبو الفرج بن هارون الملطي، السرياني، المعروف بابن العبري (١٢٢٦ - ١٢٨٦). وأما القديس إيروسيمرس فلم نهتد إلى معرفة مَنْ هو. هذا ولم نعثر في تاريخ ابن العربي على ما جاءت الإشارة إليه في هذه الفقرة.
(١) التقريب كلمة اصطلاحية في علم آداب البحث، وهو استلزام الدليل للمدَّعَى. - المصنف.

<<  <  ج: ص:  >  >>