للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لهذا البيت أفضليةٌ على كل مسجد تقام فيه دلائلُ التوحيد. وهذا الأثر أقامه إبراهيم - عليه السلام - كما دل عليه آخِرُ الآية، وإبراهيم هو رسول الحنيفية الأول. فإذا استقرت فضيلةُ هذا الأثر على بقية الآثار الدينية الحقة، ثبتت الفضيلةُ لا محالة للملة التي أُقيم هذا الأثر دليلًا عليها ومناديًا بها على ممر الأحقاب لكونه دليلَها وفيه ظهرت، فتكون أشرف الملل. وهذا الاستدلال جارٍ على طريق دلالة الالتزام، فهو استدلالٌ بطريقة الكناية بشرف المحلّ على شرف الحالّ فيه، كقول زياد الأعجم (شاعر أموي): (١)

إنَّ السَّمَاحَةَ وَالمُرُوءَةَ وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الحْشْرَجِ (٢)

وهذه الطريقةُ في صناعة البلاغة كإثبات الشيء بحجة ولها تأثير في المخاطبين، فكانت الحنيفيةُ بذلك أفضلَ الملل؛ لأنها أقامت للتوحيد أولَ معبد ومسجد، ولأنها جمعت للدعوة للحق بالقول الدعوةَ له بالمشاهدة، ولأن الملل التي تقدمتها كانت تُنْسَى بوفاة رسلها وانقطاع أقوالهم، والحنيفية بقي أثرُها ناطقًا. فإذا كان أول مسجد بناه إبراهيم للتوحيد هو الكعبة، تكون الملةُ التي نبعت منه وظهرت فيه أفضلَ الملل بحكم إعطاء شرف القرين لقرينه.

وقوله تعالى: {مُبَارَكًا} حال من اسم الموصول الصادق على البيت، أي مجعولًا ذا بركة، والبركةُ كثرةُ الخير ونماؤه من جانب الله تعالى دون سبب عادي. ووُصِف البيتُ بذلك باعتبار ذاته؛ إذ كان قد باشر بناءه رسولُ الله إبراهيم وابنُه إسماعيل رسول الله، فلامست أيديهما حجارتَه وطينه، ثم أعان فيه محمد - صلى الله عليه وسلم - حين بنته قريش، ثم كان هو الواضع للحجر الأسود منه بيده لَمّا اختلفت بطونُ قريشٍ


(١) هو أبو أمامة زياد بن سلمى، ويقال زياد بن جابر بن عمرو بن عامر من عبد القيس، وكان ينزل إصطخر. عُرف بزياد الأعجم للُكنة كانت فيه. وذكر أن مولده ومنشأه في أصفهان، ثم انتقل إلى خراسان فلم يزل بها حتى مات. كان شاعرًا جزلًا، فصيحَ الألفاظ، على لكنته وجريه على لفظ أهل بلده. أورد له ابن قتيبة عدة أبيات، ليس منها هذا البيت. الشعر والشعراء، ص ٢٦٠ - ٢٦٢.
(٢) هو عبد الله بن الحشرج القيسي، أمير خراسان لبني أمية. - المصنف.

<<  <  ج: ص:  >  >>