للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أليس في ارتياء مقاصد المتكلمين قبل التسارع إلى تغليطهم ببوادر الظنون أو بشهوات نفس تخب خبب البازل الأمون (١) ما نقتصد به زمانَ المراجعة إلى استئناف شيء جديد ونحفظ به كرامة الاتحاد، وسلامة الضمير، ونسلم به من افتضاح حب التشفِّي والانتقام لإطفاء ثوائر الحسد والغل؟

ما كان التقرير على الخطأ إلا خطأ وتضليلًا، ولكن نظيره في التضليل وأعظم منه فسادًا التسارعُ إلى تغليط الصائبين، لا سيما إن قارنه ما يقارن سفاهةَ الرأي وضيق الصدر، وبالثاني (٢) غليل الجهل من تفويق (٣) سهام نقد تخطئ الرمية، والأخذ بسلاح العاجزين من الغيبة والشتيمة التي تترجم عن قصد صاحبها من غير غرض ترشقه. اللهم إلا رأي رجل اعتدت منه المكابرة والمسارعة إلى الزج بنفسه فيما لا يدبر منه مخرجًا ولا يجد لمثله فيه مولَجًا، ثم قومته المرة والمرتين، فما زاده تقويمك إلا عنادًا، ولا أكسبه اقتصادُك إلَّا إسرافًا وازديادًا؛ فإنك إن رأيت منه ما يقتضي أن تسلك معه مسلك الخطابة من تقبيح انتحاله، وتشخيص مشوه حاله، فلا ملامَ عليك إن كنت قد صادفت البلاغةَ في فعلك أو قاربت.

قد ترى قومًا أغرقوا في احترام أفكار الناس - وما كل الناس - إلى غور عميق، فغشيهم ظلامٌ طمس على أعينهم حتى تلقَّوْا كلَّ قولٍ بالتأييد، وحكموا في كلا المتناقضَيْنِ بأنه سديد، واتسموا - أكرمك الله - بِسمَةِ البليد. ثم ترى رجلًا يخترق قلوبهم بنصائح تفتح لهم أعينًا عميًا، وقلوبًا غلفًا، وهم في صمم عن تلقيها، أفتعذره إن رأيته يسلك معهم ذلك المسلك؟ أم تعذله إن خالف ما تأصَّل من احترام الأفكار؟ لعلك تشعر ساعتئذٍ بأن أصول التهذيب دواليب تدور، وأنه


(١) خبَّ: عدا وأسرع، والبازل: البعير الذي طلع نابه في السنة الثامنة أو التاسعة، والبازل الأمون: البعير المأمون الذي يُمتطى فلا يعثر ولا يفثر.
(٢) كذا في الأصل ولم يتبين لنا الوجه فيها، ولعلها "وبالتالي" (بالفوقية المثناة لا المثلثة)، والله أعلم.
(٣) فوَّق السهمَ: جعل له فوقًا، والفوق موضعُ الوتَر من السهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>