للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"؟ (١)

سيظن البسطاءُ من الناس أن احترام الأفكار وحريتها يخولها حقَّ الاجتراء بنحو الشتيمة، ولكنه ظنٌّ سريعُ التقشع متى وجدوا لسانًا حكيمًا يبيِّن لهم أن الحرية والاحترام شيءٌ وأن الاجتراء شيء آخر؛ لأن الحرية إنما ينالها المرء بعد شعوره بوجوب مساواته مع غيره فيها، وإلا كانت الاستعباد الذي نفر منه. فإن طلبت أنفسُهم زيادة البيان، فإنا نحيلهم على كلام طويل في معنى الحرية، لو بسطناه لفُصم عنا سلكُ الكلام في مرادنا من هذا المقال. فإذا كانت الأفكار محترمةً كما قلنا، فالاجتراء عليها بما ذكرنا يستأهل عقوبةً على خرق سياج هذا الاحترام حقًّا؛ لأن ذلك يثير العصبيات ويجفي عن الحقيقة التي ما احترمت الأفكار إلا لأجل الوصول إليها.

من أكبر الأسباب في تقدم الأمة بعلومها وقبولها لرتبة التنوير وأهليتها للاختراع في معلوماتها، أن تشب على احترام الآراء على الوجه الذي وصفنا من قبل وعسى أن نصف من بعد. وقد كان للمسلمين من ذلك الحظُّ الذي لم يكن لغيرهم يومئذٍ من التسامح مع الأفكار، شهد بذلك التاريخ وأهله إلا المتعصبين منهم، مع ما كان بين أصناف أهل الآراء من التناظر والجدل. ولكنك لا تجد ذلك محفوفًا بتعصب ولا اضطهاد: كنتَ ترى الأشعري بين يدي المعتزلي لا يستنكف عن تلقِّي فوائده والاعتراف له بحق التعليم، وترى السني يتعلم عن القدري وعن الفيلسوف الشاكّ.

قد كان عمرو بن عبيد (٢) - الزاهد الشهير - من خاصة تلاميذ الحسن


(١) انظر تعليقنا على هذه المقولة في حاشية على مقال المصنف "بيان وتأصيل لحكم البدعة والمنكر" في القسم الثالث من هذا الجزء.
(٢) هو أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب، الزاهد المتكلم المشهور، مولى بني عقيل ثم آل عرادة بن يربوع بن مالك. ولد سنة ٨٠ هـ. كان شيخ المعتزلة في عصره. له رسائل وخطب، وكتاب التفسير عن الحسن البصري، وكتاب الرد على القدرية، وكلام كثير في العدل والتوحيد، وغير ذلك. ولما حضرته الوفاة قال لصاحبه: "نزل بي الموت ولم أتأهب له، ثم قال: اللهم إنك تعلم أنه لَم يسنح لِي أمران في أحدهما رضًا لك وفي الآخر هوًى لي، إلا اخترت رضاك على هواي فاغفر لي". توُفِّيَ سنة ١٤٤ هـ، وهو راجع من مكة بموضع يقال له مَران.

<<  <  ج: ص:  >  >>