وربما كان القسمُ الثاني أشدَّ على الأفكار لكثرة دواعيه ووفرة منتحليه. وأنواع وجهتهم في هذا الغرض [أربعة]: (١)
١ - منهم من يفعل ذلك إبقاءً على منصبه، واستحفاظًا على وجاهته؛ لأنه يخال أن كلَّ مخالفة له في الرأي تُنذِر بثَلِّ عرشه وزلزال أركانِه، والمريضُ كثيرُ الأوهام.
٢ - ومنهم الذي يسخط من مخالفة المعتاد، ويرى العادةَ دينًا أو شبهَ دين، يجب أن لا يتلاعب به الشخص.
٣ - ومنهم الذي يتوهم أن الدينَ يخالف احترام الآراء، وهذا إن شئت أن تجعله فرعًا من سابقه وجدته لك أطوعَ من نعلك.
٤ - ومنهم الحاسدُ العاجز الذي يحب أن يظهر في مظاهر الكمال بكلمات يلفقها، ويحس في ذكر ذلك لذة ما دام منفردًا بها، فإن شاع ذلك بين الناس تميز من الغيظ. كنتُ أعرف رجلًا ينادي بين الناس باسم النقد للحالة والطعن في الأوضاعِ المعتادة، وربما ترقَّى إلى بعض الشتيمة زمانَ كان يقول ذلك وحده، يحب الشهرة وما يلقاها، ويترصد طريقَها وما يقع بمرآها. كان يومئذٍ مستأثرًا بورقات ينقل منها ما يلغط به، فلما امتدت الأيدي، وانبرت العيونُ إليها، واستوى مع غيره في معرفتها، انصاع يُقبِّح ذلك الحال، ويرى خلَفَه ودعاءهم في ضلال.
مِمَّا يُخَصُّ بالوصاية والاحترام أفكارُ المتقدمين الذين وصلوا بنا إلى حيث ابتدأنا من العلم والمدنية، عوضًا أن نكون في متحرَّكِهم الأول نبتدئ سيرًا بطيئًا. وكما يقال: إن الإنسان ابنُ يومه لا ابنُ أمسه، فهو أيضًا ليس بابنٍ لغده، فمقدارُ فضيلة الرجل ومكان شهرته لا يُنظر فيه إلى غير يومه الذي كان فيه.