للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُفسد تفسير الوجود في نظرهم، فتخيلوا وجودَ غير الواجب عدمًا، وجعلوا الوجودَ منحصرًا في الوجود الواجب.

وكأنهم أحبوا أن يجمعوا بين طريقتَيْ الحكماء والأشعري بما يناسب طريقتَهم في التواضع واحتقار هذا العالم الزائل. ثم اختلفوا في شرح هذا المبدأ، فبعضهم شرحه بأن العبد إذا قرُب إلى الله بصفاء السريرة وزكاء النفس وصالح الأعمال، انْمحى عن نفسه وعن سائر الممكنات، فلا يرى موجودًا إلا الله، وسَمَّوا ذلك المقامَ بمقام الفناء. واستروحوا له بما ورد في الحديث القدسي في الصحيح: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" إلخ، (١) فقالوا: إذا تحقق هذا الكونُ (الذي في قوله: كنت معه)، صار العبدُ لا يشعر بغير وجود الله.

وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ عبد السلام بن مشيش (٢) في صلاته المشهورة


(١) صحيح البخاري، "كتاب الرقاق"، الحديث ٦٥٠٢، ص ١١٢٧، ولفظه: "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه. وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحِبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأُعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مَساءَتَه".
(٢) هو عبد السلام بن مشيش بن حيدرة بن محمد بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شيخ الإمام أبي الحسن الشاذلي. ولد سنة ٥٥٩/ ١١٩٨ في منطقة جبل العلم القريبة من مدينة تطوان بشمال المغرب. تعلم في الكتّاب فحفظ القرآن الكريم، ثم أخذ في طلب العلم. كان يعمل في فلاحة الأرض كباقي أهل بلدته، ولم يكن متكلًا على غيره في تدبير حياته، ويبدو أنه كان يقسم وقته بين أمور ثلاثة: طلب العلم والمعرفة، السهر على رعاية أسرته، والانشغال بالشؤون العامة كالجهاد، والعبادة والتبتل وقراءة الأوراد وسلوك طريق القوم حيث اختار المقام في الجبل الذي توفي به. من مشايخه في الدراسة العلمية الشيخ أحمد الملقب (أقطران) وهو دفين قرية أبرج قرب باب تازة، ومن مشايخه في التربية والسلوك الصوفي الشيخ عبد الرحمن بن حسن العطّار الشهير بالزيات. مات الشيخ ابن مشيش مقتولًا سنة ٦٢٢ هـ. من أهم ما وصلنا من نصوصه: =

<<  <  ج: ص:  >  >>