للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن العجائب التي تنافي ما ينتحله الشيخُ ابن خلدون من الفلسفة، (١) أن تسمعه يسند طولَ عمر نوح إلى قِرانات كوكبية غريبة، (٢) ناسيًا أن الكواكبَ التي اقترنت ما طلعت على نوح وحده، بل على العالم كله، فمن الواجب أن يعيش كلُّ البشر الموجود يومئذ كما عاش نوح حذوَ النعل بالنعل؛ فلا معجزةَ ولا خصيصة. وتأثيرُ الكواكب في بعض الأشخاص دون بعض من تدجيلاتِ الكهان، التي ما كان ينبغي أن تأخذ مكانًا من عقل الشيخ ابن خلدون حتى يشوه بها كتابه، ويموه صوابه.

ثم ماذا يصنع في أعمار غير نوح من الأنبياء وغيرهم الذين ذكرتهم التوراة (العهد القديم) وهي الملجأ في التاريخ العتيق (المقدس)؟ أنا لا أرى هذا التحديد المنسوب للحكماء إلَّا شيئًا سرى لهم من قولها في سفر التكوين (ص ٣٦): "فقال الرب لا يدين روحي لي الإنسان إلى الأبد لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة". (٣)


(١) يبدو أن المصنف هنا يشير إلى منهجية ابن خلدون في علم العمران والاجتماع البشري الداعية إلى تفسير الظواهر والوقائع تفسيرًا علميًّا بربطها بأسبابها الموضوعية وعللها الحقيقية من حيث هي خاضعة لسنن لا تتخلف.
(٢) جاء ذلك في الفصل الرابع عشر من المقدمة عند كلام ابن خلدون على الأعمار الطبيعية للدول، حيث قال: "اعلم أن العمرَ الطبيعي للأشخاص على ما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرون سنة، وهي سِنْوُ القمر الكبرى عند المنجِّمين. ويختلف العمر في كل جيل بحسب القرانات، فيزيد عن هذا وينقص منه. فتكون أعمارُ بعض أهل القرانات مائةً تامة وبعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين، على ما تقتضيه أدلةُ القرانات عند الناظرين فيها. وأعمار هذه الملة ما بين الستين إلى السبعين كما في الحديث، ولا يزيد على العمر الطبيعي الذي هو مائةٌ وعشرون إلا في الصور النادرة وعلى الأوضاع الغريبة من الفلك، كما وقع في شأن نوح - عليه السلام - وقليلٍ من قوم عاد وثمود". ابن خلدون: المقدمة، ص ١٥٨ - ١٥٩. و"سنو القمر": مستواه وارتفاعه.
(٣) في الطبعة التي اعتمدناها جاءت ترجمة هذه الفقرة على النحو الآتي: "فقال الله لن يجادل روحي الإنسانَ أبدًا، إذ هو لحم ويكون أجله مائة وعشرين سنة". كتب العهد العتيق: سفر التكوين، الفصل: ٦، ص ٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>