سلمان:"إن الأرض لا تُقَدِّس أحدًا"، ولا تطهره من ذنوبه، "وإنما يقدسه عمله". فيكون على هذا التأويل إنما وُصف أهلُ بيت المقدس بذلك في زمان عملوا فيه بطاعة الله تعالى، وكان كثيرٌ منهم أنبياء وسائرُهم أتباعًا للأنبياء". (١)
وأقول: تقديس البقاع مثل تقديس الأوقات، هو أمر جعلي من الله تعالى تبعًا لما رسم لها من إيقاع الأعمال الصالحة التي أهمها التوحيد. وقد كان المسجد المقدس ثانِيَ بيت وضع للناس لإعلان توحيد الله وتنزيهه، وذلك أساسُ فضائل الأعمال.
• "فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا": لم يشتمل جوابُ سلمان على تقرير لما يخالف اعتقاده، كالذي تشتمل عليه مخاطباتُ الناس ورسائلُهم من الإطراء لما قد يعتقده المرء فاسدًا بعلة المداهنة التي علق عليها الناس اسم المداراة، فعدموا بذلك فائدةَ النصيحة والتواصي بالحق.
ذلك أن سلمان وأمثاله صدقوا ما عاهدوا الله من بذل النصيحة لكل مسلم، وكذلك يكون الأمر بين أقوياء النفوس وراجحي الأحلام أن لا يكتموا شيئًا يرون منه صلاحًا ونصحًا؛ لأن الكذب هو علة انقلاب الحقائق وموجب ارتفاع الاطمئنان. وذلك يسبب التخاذل والتفريق، فلا يرجى اتحادٌ ما دام هذا سائدًا في أمة.
قوله: "إن الأرض لا تقدس أحدًا"، هو رد لِمَا تضمنه كلامُ أبي الدرداء حين دعاه إلى سكنى الأرض المقدسة؛ لأن الصفة تؤذن بالتعليل، فيتضمن أنه يكتسب من السكنى بها تقديسًا في نفسه. وقصد سلمان أن يدفع ما وقر في صدور الناس من الشعور بأن المرء قد تغني عنه ملابساتُه، حتى الأرض التي هو فيها. وأبو الدرداء وإن كان منزهًا في نظر سلمان عن اعتقاد هذا لعلمه وصحبته، ولكنه رأى لسانه جرى على ما تجري به ألسنةُ العموم، أو أنه رام ترغيبَه في القرب منه بمرغِّبٍ ما، وهو فضل الأرض التي يسكنها استكمالًا للفضيلة.