• "وإنما يقدس الإنسان عمله": جاء بقضية كلية بعد أن نفى التقديسَ في جزئيته؛ لأن تلك الجزئية المنفية ليست أوْلَى الجزئيات بثبوت الحكم بحيث إِنْ نُفي عنها اقتنع المتكلِّم عن نفي ما عداها من الجزئيات، مما الشبهةُ به أشدُّ والخطأ إليه أسرع، نحو قرابة من المقدس أو صلة به.
فأورد هذا الحصر بإنما تنبيهًا على تعميم القضية، فقصر بذلك صفة تقديس الإنسان على العمل لا تتجاوزه إلى غيره، وهو قصر حقيقي. وليس ورود القصر بعد النفي بجاعله إضافيًّا؛ لأن النفي إنما يلمح إلى الاعتقاد المردود الباعث على سلوك طريق القصر. على أن النفي هنا متقدم، وهو عند التقديم صريحٌ في أن الداعي إلى الخطاب بالقصر يفيد. ووِزانُه وزانُ "إنما الولاءُ لِمَنْ أعتق"(١) بعد كلام أشار إلى أن البائع لا يستحقه، ولذا اتفق جمهورُ الفقهاء على أن لا ولاءَ إلا لمن أعتق.
• "وقد بلغني أنك جُعِلْتَ طبيبًا تداوي": أشار إلى ولاية أبي الدرداء قضاء بلد القدس. ومراد سلمان ظاهر؛ إذ قد علم أبو الدرداء أنه لم يكن طبيبًا، فهو يعلم أن سلمان أراد تمثيلَ حاله في القضاء بحال الطبيبِ أو المتطبِّب. وسمي القاضي طبيبًا على طريقة الاستعارة، لمشابهة القاضي الطبيبَ في إصلاح حال البشر وإزالة أدواء الظلم. فإن كان الطب يصلح مزاج المرضى، فالقضاء بالحق يصلح مزاج العالم
(١) عن ابن شهاب، عن عروة: أن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءتني بريرةُ فقالت: كاتبتُ أهلي على تسع أواقٍ، في كل عام أُوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحبَّ أهلُك أن أُعِدْها لهم ويكون ولاؤكِ لي، فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم فأبو ذلك عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فقالت: إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاءُ لهم، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاخبرت عائشة رضي الله عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق"، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "ما بال رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". صحيح البخاري، "كتاب البيوع"، الحديث ٢١٦٨، ص ٣٤٦ - ٣٤٧؛ صحيح مسلم، "كتاب العتق"، الحديث ١٥٠٤ (٨)، ص ٥٨٠.