وضدُّها الْحُرمة وهي المنع، ومنه وصف البلد الحرام. ومعنى صيرورة البيضة مباحةً أن لا يبقى لها من القوة والعزة ما يمنع العدوَّ من تناولها والتمكن منها، والبيضة هنا الجامعة. وأصلُ البيضة لأمة الحرب التي تُلبس على الرأس لتقيه ضربَ السيوف، مثل المغفر، ثم أُطلِقت على العزة مجازًا مرسلًا؛ لأنها سببُ العزة في الحرب للابسها أن يكون آمنًا من إتلاف نفسه. ثم أُطلقت على الأمر الذي تجتمع عليه الأمة، وبه قوامُها وبقاؤها. ومن ذلك قولُ العلماء: من شرط الخليفة أن يكون قادرًا على حماية البيضة.
والجامعةُ في اعتبار الإسلام هي جامعة الدين، فلا التفاتَ إلى القبائل والأحياء، ولا إلى الأوطان والأمم. ولكن الجامعةَ الإسلامية لَمَّا كانت حاصلةً في جماعة المسلمين، وكانت جماعةُ المسلمين لا غِنًى لها عن الاستقرار في مكان، فوطنُ الإسلام وبلاد الإسلام هو الأرض التي يقطنها طوائفُ من المسلمين.
فالتأم من معنى الكلام: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سأل الله أن لا يسلط العدوَّ على الأمة تسليطًا يتمزق به إهابُ الجامعة الإسلامية. فليس الْمُرادُ أن لا يسلط العدُوَّ على بعض المسلمين في بعض الأقطار أو في بعض الأيام؛ لأن سنة الله في هذا الكون أن الدنيا دولٌ والحرب سجال، وأن الأمور موكولةٌ إلى أسبابها وعوارضها، فقد هُزِم المسلمون في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الوقائع، كما قال تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)} [الأحزاب: ١١].
وإنما المراد أن لا يسلِّطَ عدوًّا على جميع الأمة فيستأصلها، بقرينة قوله قبله:"أن لا يهلكهم بسنة عامة"؛ أي بقحط يعم جميعَ بلاد الإسلام حتى يستأصلهم. فلا يمنع ذلك من حصول قحطٍ في بعض الجهات يُهلك طوائفَ من الناس، فقد كان قحطُ عامِ الرمادة في خلافة عمر - رضي الله عنه -، وكان غيرُه بعده. ونظيرُ هذا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه غيرَ مرة دعواتٍ مرجعُها إلى حماية هذه الأمة من أسباب الاستئصال. فقد أمن الله أمةَ محمد - صلى الله عليه وسلم - من الخسف، ومن الهلاك بالريح، ونحو ذلك مما أُهلكت به