وهذا وهم نشأ من إعمال الاشتقاق من لفظ الراهب. فابتدروا بأخذ ما رسمه الرهبان للمسيحيين من أن العبد لا أهلية له لدعاء الله ومناجاته إلا بواسطة الراهب، فجعلوا تصدي الرهبان لفهم الإنجيل وتحجيرهم على من لم يكن منهم الاشتغال بذلك، مما شمله معنى الرهبانية، فتوهموا نفيَ مثله في الإسلام.
وليس كل ما هو من شؤون الرهبان التي تعمهم وغيرهم ولا التي تخصهم بداخل في مسمى الرهبانية سوى ما ذكر آنفًا؛ لأن مدلولات الألفاظ اللغوية موقوفة على ما وضعت له في اللغة وليس من الصواب القياس عليها. ثم تولد من هذا الأصل المخطئ أصل ثان، فتوهموا أن هذا لما كان من أوهام الرهبان وأن الحديث لما نفى الرهبانية فنفي الوساطة بين العبد وربه مشمول لنفس الرهبانية. وهذا خطأ؛ لأن الاسم الملاحظ بصفة خاصة لا تكون جميع أحواله داخلة في تلك الصفة، بل للصفات مدلولات معروفة بالوضع والاصطلاح، ولما عداها أدلة أخرى من الكتاب والسنة.
وولَّد بعضُهم من هذا الأصل أصلًا ثالثًا، وهو استنتاجُ أن نفيَ الواسطة يقتضي نفيَ احتياج المسلمين إلى مَن يعلمهم دينهم، ولا حاجة إلى معرفة مذاهب الأئمة المجتهدين (الذين شهدت لهم الأمة بإصابة الفقه في الدين). وهذا خطأ؛ قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣)} [النحل: ٤٣]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: ٥٩]، واتفق سلف الأمة وخلفها على أن علماء الدين من أولِي الأمر.
وارتقَوْا من ذلك إلى توهم أن لكل أحد أن يجتهد في الدين بما يراه، وتغافلوا عن شروط الأهلية لذلك، وعن حقيقة الاجتهاد، وصفات الأهلية له - وهي مقررة في أصول الفقه. فكان ذلك ذريعة إلى محاولة كل واحد أن يفهم الدين كما تمليه عليه أمياله، وخولوا لأنفسهم الاجتهاد في الدين مع العرُوِّ عن مؤهلات الاجتهاد وهي كثيرة وعسيرة، فليرجع إلى تفصيلها من كتب الأصول.