للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن ذلك اليوم لما حصل فيه التغابن في أم الفضائل جُعل ما عداه من الأيام التي يقع فيها التغابنُ كالعدم، فحصر جنسَ يوم التغابن في ذلك اليوم بتنزيل التغابن الواقع في غيره منزلة العدم، وهذا من قَصْر الصفة على الموصوف على وجه المبالغة. وهذا الوجه من الحصر يسمَّى بالحصرَ الادعائي؛ لأن المتكلم يدعي أن الوصف بيوم التغابن محصور في ذلك اليوم وهو يوم الجمع كقولهم: أنت الحبيب.

واعلم أن الحصر إنما حصل هنا من صيغة القصر التي هي تعريفُ المسند والمسند إليه، ولم يحصل الحصرُ من التعريف باللام في قوله: {التَّغَابُنِ}، بناءً على أن اللام فيه دالةٌ على معنى الكمال؛ لأن معنى الجنس الذي هو أصلُ معنى اللام صالِحٌ هنا، فلا يُعدَل عنه إلى حمل اللام على معنى الكمال، إذ لا يُحمل عليه إلا عند تعيُّن الحمل عليه بالقرينة، وهي منفيةٌ هنا لاستقامة الحمل على تعريف الجنس، وهو أكثرُ معاني اللام.

ولولا صيغةُ القصر لمَا استُفِيد معنى الحصر، فكيف يكون حاصلًا من معنى الكمال الذي لم ينشأ في هذا المقام إلَّا من حصول معنى الحصر؟ فلا يختلطْ عليك، كما اختلط على بعض العلماء.

والتغابن مشتقٌّ من الغُبن، والغبن الحطُّ من قيمة المبيع عند شرائه، فكلُّ شراء بأقلَّ من القيمة فهو غبن. ومادة التغابن تفاعل من الغبن. وأصل مادة التفاعل تدل على وقوع الفعل من جانبين فصاعدًا، كالتقاتل والتسابق، فلفظ التغابن يدل على وقوع غبن حاصلٍ بين جوانب في يوم القيامة.

وقد اتفق المفسرون على أن المفاعلة غيرُ مقصودٍ منها هنا وقوعُ الفعل من جوانب، ولكنهم اختلفوا في تحصيل المعنى. فذهب الزمخشري ومَنْ تبعه - مثل الفخر والبيضاوي - إلى أن المفاعلة هنا هي أن يغبن أهلُ السعادة أهل الشقاوة، إذ ينزلون منازلَ الجنة التي كان يمكن لأهل الشقاوة أن ينزلوها لو عملوا عملَ السعداء، وهذا يشبه الغبن، فالغبن المستفاد من هذا الجانب استعارة، وهذا أحد

<<  <  ج: ص:  >  >>