للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجميع التفاسير - في رأينا - لم يخرج عن هذين المعنيين، إما مع ضبط أو مع تخليط. ومنهم من مر بالآية مرًّا، ولم يحتلب منها دُرًّا. أما أنا فأكد ثِمادي، (١) وأستهدي بالهادي، فأقول: ليس المعنى في الآية حاصلًا من مراعاة معاني المفردات، لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز، ولكنه معنى عزيزٌ جليل حصل من مجموع التركيب، وهو قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}. فقد أشار الحصرُ الادعائي الذي قدمنا بيانَه إلى أن المخاطبين يحسبون أيامًا كثيرة أيامَ تغابن، وأن هذا اليوم المتحدَّث عنه هو يومُ التغابن لا غيره من الأيام.

فبنا أن نتعرف الأيامَ التي يعدها المخاطَبون أيامَ تغابن، وأن نرجع إلى أحوال المخاطبين وهم أهلُ مكة ومَنْ حولهم. ذلك أن "التغابن" هنا قد أضيف إليه "يوم"، فعلمنا أن ليس المرادُ من التغابن تغابنَ آحاد الناس في بيوعاتهم الخاصة التي تعرض من ساعة إلى أخرى، وفي يوم معين يكثر فيه التبايع، فيُغبن فيه ناسٌ كثير، ويتربص فيه بعضُ الناس ببعض لإلحاق الغبن والخسارة.

ولا نجد أيامًا بهذه الصفة غيرَ أيام الأسواق، وقد كانت قريش أهلَ تجارة، وكانت الأسواقُ حول مكة في الحج: سوق عكاظ، وسوق ذي المجاز، وسوق مجنة. فكلُّ داخلٍ إلى الأسواق يحرص على أن يجلب الربح إلى نفسه، ويغبن غيره، ويحذر من أن يغبنه غيرُه. فكلٌّ يترقب الربحَ ويحذر الخسارة، ولا يرضى لنفسه أن يكون مغبونًا؛ لأن الغبن يُؤْذِن بغباوة المغبون، واستخفاف الناس به، وتمشِّي الحيلة عليه.


(١) هذا تضمينٌ من شعر (من الطويل) نسبه الجاحظ إلى بعض الحجازيين جاء فيه:
إِذَا طَمَع يَوْمًا عَرَانِي قَرَيْتُهُ ... كَتَائِبَ بَأْسٍ كَرَّهَا وَطِرَادَهَا
أكدُّ ثِمَادِي وَالْمِيَاهُ كَثِيرَةٌ ... أُعَالِجُ مِنْهَا حَفْرَهَا وَاكْتِدَادَهَا
وَأَرْضَى بِهَا مِنْ بَحْرِ آخِرَ إِنَّهُ ... هُوَ الرِّيُّ أَنْ تَرْضَى النُّفُوسُ ثِمَادَهَا
الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: البيان والتبيين، نشرة بعناية موفق شهاب الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ٢، ١٤٢٤/ ٢٠٠٤)، ج ٢/ ٣، ص ٢١٠. والثِّماد من الثمد، وهو الماء القليل، وله دلالات أخرى تدور حول المعنى نفسه. وقيل: الثماد هي الْحُفَرُ يكون فيها الماء القليل، كما قيل هو المكان الذي يجتمع فيه ماء السماء. ومعنى أكد ثِمادي: أجتهد طاقتي في الحفر عنه واستخراجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>