للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكلُّ هذه أوصافٌ يأباها العربي، فشُبِّه في الآية حالُ الناس يوم القيامة بحال الناس يوم السوق في ترقب ما ينفع والإشفاق مما يضر، وهو تشبيهُ هيئةٍ بهيئة، وليس تشبيهَ معنى لفظ مفرد بمعنى مفرد آخر. واستُعملَ المركَّبُ الدال على الهيئة المشبَّه بها، فأطلق على الهيئة المشبهة على طريقة الاستعارة التمثيلية، وهي أعلى أنواع الاستعارة. والمقصود من ذلك تذكيرُ الكفار والمؤمنين بتلك الحالة بين الرغبة والرهبة حتى يستحضروا كأنهم قد تلبسوا بها فيحذروا سوءَ عاقبتها من الآن، وذلك بأن يسعوا إلى ما يجلب الربح ويتقوا ما يجلب الخسارة الحقة، قال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩)} [فاطر: ٢٩]. وقد تكرر القرآن تمثيلُ حال أهل الفوز وأهل الثبور في الآخرة بحال التجارة، كما في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: ١٦].

ونظيرُ هذا المعنى قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي، وذكره البخاري تعليقًا في بعض أبواب الأدب: "إنما المفلسُ الذي يفلس يوم القيامة"، (١) وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} [النبأ: ٣٩]، أي: يوم القيامة هو يوم النصر؛ لأن اليوم إذا أُطلق فهو يومُ النصر لبعض جيوش العرب أو بعض ملوكهم، كما قالوا: يوم تحلاق اللمم. (٢)


(١) لَم أجده بهذا اللفظ عند الترمذي، وهو عند البخاري كما ذكر المصنف. صحيح البخاري، "كتاب الأدب - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الكرم قلب المؤمن""، ص ١٠٧٧. أما روايةُ الترمذي فلفظُها عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتدرون من المفلس؟ " قالوا: المفلس فينا يا رسول الله مَنْ لا درهمَ له ولا متاع. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المفلس من أمتي مَنْ يأْتِي يومَ القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، فيَقعُد فيَقتَصُّ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقتص ما عليه من الخطايا أُخِذ من خطاياهم فطُرِح عليه، ثم طُرِح في النار". الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة: سنن الترمذي أو الجامع الصحيح (بيروت: دار الكتب العلمية، ١٤٢٧/ ٢٠٠٦)، "أبواب صفة القيامة"، الحديث ٢٤١٨، ص ٥٧٤ - ٥٧٥؛ وهو كذلك في النيسابوري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري: صحيح مسلم (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ١، ١٤٢١/ ٢٠٠١)، "كتاب البر والصلة والآداب"، الحديث ٢٥٨١، ص ١٠٠٠.
(٢) هو يوم القِضَة، أحد أيام حرب البسوس بين بكر وتغلب ابني وائل في الجاهلية. وسمي يوم تحلاق اللمم، وكذلك يوم التحالق، لأن قبيلة بكر حلقت رؤوسها ليتميزوا عن عدوهم فيعرف بعضُهم بعضًا، وقضة مكان ذو ماء التقى عنده الطرفان المتحاربان.

<<  <  ج: ص:  >  >>