وأصناف ذوي العلم، بناءً على احتمالين في المراد من قوله تعالى "العالمين" ناشئين عن إطلاق اسم العالم مفردًا، مرةً على الكل المجموعي الذي يُعلم به الله تعالى، أي على جميع المخلوقات الدالة على وجود خالقها، ومرةً يُطلق على صنف من أصناف أولي العلم، أي المخلوقات أولِي العلم كالبشر والملائكة.
وبذلك كانت صيغةُ جمع العالمين محتمِلَةً لأَنْ يُرادَ بِها جميعُ أصناف أولي العلم، وأن يُرادَ بها جميعُ أصناف الموجودات. فعلى الاحتمال الأول، يختص لفظُ العالمين بالبشر المخاطَبين بالشريعة، فيكون الجمعُ فيه لتأكيد العموم. وعلى الاحتمال الثاني، لقصد أن يعم لفظُ العالمين سائرَ الموجودات، فيكون عمومًا على عموم.
فأما شُمولُه البشرَ فلأنهم المخاطَبُون بالشريعة، وأما شُموله العجماواتِ فلأن البشرَ مخاطَبون بالشريعة بالرحمة بهن، فكانت الشريعةُ رحمةً لهن. ويخرج ما عدا البشر والحيوان، إذ لا تُتصور فيه الرحمة، فيكون خروجُ بقية الأجناس تخصيصًا للعموم بدليل العقل.
وإذ قد تبين هذا، فمِمَّا لا شكَّ فيه أن الشرائعَ الإلهية التي قبل الإسلام مملوءةٌ رحمة، إلا أن الرحمة التي فيها غيرُ عامة، إما بسبب عدم تعلُّقِ بعضها بجميع أحوال المكلَّفين، مثل الحنيفية - شريعة إبراهيم - عليه السلام - فهي شريعةُ رحمة خاصة بحالة النفس وليس فيها تشريع للأحوال العامة، وشريعة عيسى - عليه السلام - قريبة من ذلك على شدة في بعض أحكامها.
وإما لأنها قد تشتمل في غير القليل من أحكامها على شدة اقتضتها حكمةُ الله تعالى في سياسة الأمم المشروعة لها، مثل شريعة التوراة فإنها شريعة واسعة تتعلق بأكثر أحوال الأفراد والجماعات، وهي رحمة، كما قال تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)} [الأنعام: ١٥٤]؛ فإن كثيرًا من عقوبات أمتها جعلت في فرض أعمال شاقة على الأمة بتكليفها بفروض مستمرة، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ