للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالفرقُ بين شريعة الإسلام وبين غيرها من الشرائع أن الرحمة ملازمةٌ بها للناس في سائر أحوالهم، وأنها حاصلةٌ بها لسائر الخلق لا لأمة خاصة. وحكمةُ تمييز شريعة الإسلام بهذه الخصيصة أن حالةَ النفوس البشرية بعد ما مر عليها من الأطوار والعصور قد تهيأت لأن تُساس بالرحمة، وأن تدفع عنها المشقةُ، إلا بمقادير ضرورية لا تُقام المصلحةُ بدونها، وكلُّ ذلك رحمةٌ من الله تعالى بعباده في إقامتهم على مصالحهم.

فما في الشرائع الماضية من امتزاج الرحمة بالشدة، وما في شريعة الإسلام من تمحض الرحمة لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة. ولكن الله أسعد هذه الشريعةَ وصاحبَها وأمتها بمصادفتها للزمن الذي اقتضت حكمةُ الله في مراعاة تقويم البشر أن يكون التشريعُ لهم تشريعَ رحمةٍ إلى انقضاء العالم. وتلك مناسباتٌ مقدرة في الأزل، يظهر فيها ازدلاب (١) المقامات وتفاوت الكرامات.

من الأصول القطعية في الإسلام أن شريعةَ الإسلام أُقيمت على دعائم الرحمة والرفق واليسر، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥]، وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩)} [النساء: ٢٩]، وقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٤)} [النور: ١٤]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بالحنيفية السمحة". (٢)


(١) لم يتضح لي وجهُ الدلالة في استخدام هذا اللفظ. هذا وقد قال ابن منظور في فعل زلب ما لعله يساعد على فهم المراد من هذا اللفظ قال: "رأيتُ في أصل من أصول الصحاح، مقروءٍ على الشيخ أبي محمد بن بري رحمه الله: زَلِب الصبيُّ بأمه، يَزْلَب زلبًا: لزمها ولم يفارقها (عن الْجُرَشي). الليث: ازدلب في معنى استلب، قال: وهي لغة رديَّة". ابن منظور: لسان العرب، ج ١، ص ٤٥٢.
(٢) جزء من حديث طويل عن أبي أمامة قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيت عثمان بن مظعون فوقف على الباب فقال: "ما لك يا كحيلة متبذلة؟ أليس عثمان شاهدًا؟ " قالت: بلى، وما اضطجع على فراش منذ كذا وكذا، ويصوم النهار فلا يفطر. فقال: "مريه أن يأتيني"، فلما جاء قالت له، فانطلق إليه فوجده في المسجد، فجلس إليه فأعرض عنه، فبكى، ثم قال: قد علمت أنه قد بلغك عني =

<<  <  ج: ص:  >  >>