للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن رحمة الشريعة تظهر في تبليغها وفي تنفيذها، فالأول قد جاء منجَّمًا، والثاني قد جاء مدرجًا. وإليك شاهدًا على الأول، قالت عائشة رضي الله عنها: "إنما نزل أولَ ما نزل من القرآن سورةٌ من المفصل فيها ذكرُ الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناسُ إلى الإسلام نزل الحلال والحرام. ولو نزل أولَ شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (٤٦)} [القمر: ٤٦]، وما نزلت سورةُ البقرة والنساء إلا وأنا عنده". (١) و [إليك] شاهدًا على الثاني: التدرج في تحريم الخمر، فأول ما بدئ بذمِّ ما فيها من إثم في آية {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: ٢١٩]، ثم نزول آية: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: ٤٣]، ثم آية تحريم الخمر. (٢)

وقد اختصَّتْ شريعةُ الإسلام برحمةٍ كبرى في التشريع، وهي أن من أصولِها دعوةَ الأمة إلى النظر في أدلة العقيدة وعلل التشريع كل على حسب استعداده، وتدريب الأمة على ذلك. ولذلك لمَّا سأل سائلٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن لقطة ضالة الغنم


= أمر! قال: "أنت الذي تصوم النهار وتقوم الليل، لا يقع جنبك على فراش؟ " قال عثمان: قد فعلت ذلك ألتمس الخير! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعينك حظ ولجسدك حظ [ولزوجك حظ]، فصُمْ وأَفْطِرْ، ونَمْ وقُمْ، وائتِ زوجك. فإني أنا أصوم وأفطر، وأنام وأصلي، وآتي النساء، فمن أخذ بسنتي فقد اهتدى، ومن تركها ضل، وإن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة فإذا كانت الفترة إلى الغفلة فهي الهلكة وإذا كانت الفترة إلى الفريضة فلا يضر صاحبها شيئًا، فخُذْ من العمل ما تطيق، فإني إنما بعثت بالحنيفية السمحة، فلا تثقل عليك عبادةُ ربك لا تدري ما طول عمرك؟ "". الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر: بغية الرائد في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق عبد الله محمد الدرويش (بيروت: دار الفكر، ١٤١٤/ ١٩٩٤)، "كتاب الصلاة"، الحديث ٣٥٦٩، ج ٢، ص ٥٣٤. وللحديث رواياتٌ مختلفة اختلافًا يسيرًا، لعل أشهرها قوله - عليه السلام -: "إن أحبَّ الدين إلى الله الحنيفيةُ السمحة". المرجع نفسه، "كتاب الإيمان"، الحديث ٢٠٥، ج ١، ص ٢٢٥.
(١) صحيح البخاري، "كتاب فضائل القرآن"، الحديث ٤٩٩٣، ص ٨٩٥ - ٨٩٦.
(٢) وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)} [المائدة: ٩٠ - ٩١].

<<  <  ج: ص:  >  >>