وأما قوله:"فطرة الله"، فهو حال من "الدين" حالًا أُولَى أو ثانية؛ فإن الحال تتعدد بعاطف وبدون عاطف على التحقيق. والفطرة مصدر بوزن فِعلة، مثل الخلقة، يقال: فَطَر اللهُ الإنسان، أي: خلقه.
ومعنى كون الدين فطرة أن ما يدعو إليه يناسب ما فُطر عليه الإنسان ولا يجافيه بحيث لا يلحق الإنسانَ من أحكام الإسلام حرجٌ ولا مشقة، قال الله تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}[المائدة: ٦]، وقال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: ١٨٥]. وفي الحديث:"إن هذا الدين يسر". (١) ولذلك بين الله تعالى كونَ الدين فطرةً بقوله: {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[الروم: ٣٠]، أي: خلقهم قابلين لأحكام هذا الدين وتعاليمه، صالحين للعمل بها في نظام أمورهم وحياتهم؛ لأنها تساوي العملَ السليم والفكر الصحيح.
وبيانُ ذلك أن الفطرة هي النظام الجبلي الذي أوجده الله في الإنسان جسدًا وعقلًا. فمشيُ الإنسان على رجليه فطرة جسدية، فلو حاول أن يتناول الأشياءَ برجليه كان محاولًا خلافَ الفطرة الجسدية. واستنتاجُ المسبَّبات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرةٌ عقلية، فإن حاول الإنسانُ استنتاجَ أمر من غير سبب كان محاولًا خلاف الفطرة العقلية. وجزْمُنا بأن ما نبصر من المبصَرات هو حقائقُ ثابتة في عالم الوجود فطرة عقلية، ولكن إنكار السوفسطائية ثبوتَ المحسوسات في نفس الأمر تحريف للفطرة العقلية. وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة، فقال:
(١) جزء من حديث رواه بهذا اللفظ النسائي عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ هَذَا الدّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادّ الدّينَ أَحَدٌ إلّا غَلَبَه، فَسَدّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا وَيَسّرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرّوْحَةِ، وَشَيْء مِنَ الدَّلْجَةِ". النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني: سنن النسائي، نشرة بعناية أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ١، ١٤٢٢/ ٢٠٠٢)، "كتاب الإيمان وشرائعه"، الحديث ٥٠٤٤، ص ٨٠٦. ورواه البخاري بدون حرف اسم الإشارة "هَذَا" بلفظ: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة"، صحيح البخاري، "كتاب الإيمان"، الحديث ٣٩، ص ١٠. وقد جاءت في معناه روايات كثيرة تنظر في مواضعها من مدونات الحديث.