للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسانُ نفسَه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل، لكنه لم يسمع رأيًا، ولم يعتقد مذهبًا، ولم يعاشر أمة، ولم يعرف سياسة. لكنه شاهد المحسوسات، وأخذ منها الخيالات، ثم يعرض على ذهنه شيئًا ويتشكك فيه، فإن أمكنه الشكُّ فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشكُّ فهو ما توجبه الفطرة. وليس كلُّ ما توجبه فطرةُ الإنسان بصادق، إنما الصادق فطرةُ القوة التي تسمى عقلًا.

وأما فطرةُ الذهن بالجملة، فربما كانت كاذبة. وإنما يكون هذا الكذبُ في الأمور التي ليست بمحسوسة بالذات، بل هي مبادئ للمحسوسات. . . فالفطرة الصادقة هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة، أوجب التصديقَ بها إمَّا شهادةُ الكل، مثل أن العدل جميل، وإما شهادةُ الأكثر، وإما شهادةُ العلماء والأفاضل منهم. . . وليست الذائعاتُ من جهة ما هي ذائعات مما يقع التصديقُ بها في الفطرة. فما كان من الذائعات ليس بأولِيٍّ عقليٍّ ولا وهمي، (١) فإنها غيرُ فطرية ولكنها متقررةٌ عند الأنفس؛ لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبا، وربما دعا إليها محبةُ التسالُمِ والاصطناع المضطر إليهما الإنسان، أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس، أو الاستقراء الكثير، أو كونُ القول في نفسه ذا شرطٍ دقيق لأَنْ يكونَ حقًّا (٢) صرفًا، فلا يُفطن لذلك الشرط، ويؤخذ على الإطلاق". (٣)


(١) كذا، فإن لم يكن تحريفًا فالظاهر أنه أراد بالوهمي الاعتباري لا ما تدركه القوةُ الواهمة. - المصنف.
(٢) قوله: "لأن يكون حقًّا" متعلقٌ بشرط دقيق. - المصنف.
(٣) ابن سينا، أبو علي الحسين: النجاة في المنطق والإلهيات، تحقيق عبد الرحمن عميرة (بيروت: دار الجيل، ١٤١٢/ ١٩٩٢)، ج ١، ص ٧٩ - ٨٠. حاولنا الاعتمادَ في توثيق كلام الشيخ الرئيس على نشرة ماجد فخري لكتاب النجاة فهي أكثر دقة من نشرة عميرة، إلا أننا ألفينا فيها اضطرابًا في بعض جمله لم نهتد إلى وجه تقويمه، واختلافًا عما ساقه المصنف لم نتبين منشأ حصوله: أهو اختلاف النسخ المعتمدة في التحقيق أم سهو من المحقق. انظر كتاب النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، تحقيق ماجد فخري (بيروت: منشورات دار الآفاق الجديدة، ط ١، ١٤٠٥/ ١٩٨٥)، ص ٩٩ - ١٠٠. وانظر له كذلك: الإشارات والتنبيهات، تحقيق سليمان دنيا (القاهرة: دار المعارف، ط ٣، ١٩٨٣)، القسم الأول، ص ٣٥٠ - ٣٥٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>