بقي علينا أن نبين وجهَ تفضيل العدول عن الكتاب، وجامع القول في ذلك أن الله في تلك الفترة أوحى إلى رسوله بشارة بأن أمته لا تضل، وأن ما يعرض لها من النوائب إنما هو سنة الله في الأمم، وأن تلك العوارض لا تلبث أن تنقشع، وأن كتابه الذي عزم عليه تحف به مصالح، وأن تركه يجلب مصالح أكثر من مصالح كتابته. فإنه إن كتب لهم بشيء خاص ربما توهموه أولَى من غيره فحرصوا على تحقيقه وفرطوا فيما سواه، فيفضي ذلك إلى تضييع أكثر الواجبات والتهاون فيها.
وهناك حكمةٌ أخرى عظيمة تحصل من مجموع القصة، تبين القصدَ إلى الكتابة والقصدَ إلى الإعراض عنها، حتى لا يُشْكِلَ وجهُ تأخر الأمر الإلهي أو الاجتهاد بالعدول عنه إلى ما بعد التصريح بالعزم عليها. وذلك أن التصريح بالعزم عليها قد أوقع في نفوس الحاضرين ومَنْ يبلغه ذلك من الأمة أن شأنًا مهمًّا توجهت إليه عناية رسول الله في أحرج ساعاته ثم لَم يبينه، فتبقى في نفوسهم لهفةٌ على بيانه لو سمح به، فتنبعث همةُ كل صاحب همة، واجتهادُ كل مجتهد، وتدبيرُ كل مَنْ يلي أمرَ الدعوة، إلى توسم أشد الأمور مصلحة للمسلمين، وأشدَّها درءَ مفسدة عنهم، فيفرغوا في تحصيله وتطلبه جهودهم وتفكيرهم، عساهم أن يصادفوا مرادَ الرسول - عليه السلام -، فيكون ذلك باعثًا على الاهتمام بمعظم مصالح المسلمين وذودُ معظم ما يُتَّقَى منه تطرقُ الفساد إليهم.
وكلٌّ ينسج على منواله، فالعالِمُ الفقيه يستفرغ جهدَه لاستنباط أحكام أدق الأحوال العارضة للأمة عساه أن يصادف ما عزم رسولُ الله على بيانه من الأحكام. ألا ترى أن ابن عباس كان يقول:"الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم"؟
والجدلي المتكلم ينافح عن عقيدة الإسلام بأوضح الأدلة النافية للشبه خيفة أن تزلزل عقائد المسلمين لعله أن يوافق مرادَ رسول الله مما ينفي الضلالة عن الأمة.
وولاة الأمور ونصحاء الأمة يتوخون في سياسة الأمة أفضلَ المصالح، ويتقون مسارب التأخر والانحطاط خشية إضاعة بعض ما اؤتمنوا عليه من حقوق