ويستبين لك من هذا أن الوجدان الإنساني العقلي لا يدخل تحت الفطرة منه إلا الحقائق والاعتباريات، ولا يدخل فيه الأوهام والتخيلات؛ لأنها ليست مما فُطر عليه العقل، ولكنها مما عرض للفطرة عروضًا كثيرًا حتى لازمت أصحاب الفطرة في غالب الأحوال فاشتبهت بالفطريات. وإنما كان عروضُها للفطرة بسوء استعمال العقل وسوء فهم الأسباب، ولذلك تجد العقلاء متفقين في الحقائق والاعتباريات، ولا تجدهم متفقين في الوهميات والتخيلات. بل تجد سلطان هذين الأخيرين أشدَّ بمقدار شدة ضعف العقول، وتجد أهلَ العقول الراجحة في سلامة منهما]. (١)
ولهذا فإن شواهدَ الفطرة قد تكون واضحةً بينة وقد تكون خفية، فإذا خفيت المعاني الفطرية أو التبست بما ليس فطريًّا، فالمضطلعون بتمييزها وكشفها هم العلماء الحكماء أهلُ النظر، الذين تمرسوا بممارسة الحقائق والتفريق بين متشابهاتها، وسبر أحوال البشر، وتعرضت أفهامهم زمانًا لتصاريف الشريعة، وتوسموا مراميها وغاياتها، وعصموا أنفسَهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء.
إن المجتمع الإنساني قد مُنِيَ بأوهام وعوائد وبمألوفات أدخلها عليه أهلُ التضليل، فاختلطت فيه بالعلوم الحقة، وتقاول الناس عليها، وارتاضوا على قبولها، فالتصقت بعقولهم التصاقَ العنكبوت ببيته. فتلك التي يخاف منها أن تلقى بالتسليم على مرور العصور، فيعسر إقلاعُهم عنها وإدراكُهم ما بينها من انحراف عن الحق. فليس لتمييزها إلا أهلُ الرسوخ، أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كلَّ سبيل، واستوضحوا خطيرَها فكانوا للماشين خير دليل.
وكونُ الإسلام دينَ الفطرة وصفٌ اختُصَّ به الإسلامُ من بين سائر الأديان؛ لأن مسايرته الفطرة مطردة في أصوله وفروعه. وأما سائر الأديان فقد بُنيت أصولُ
(١) ما بين الحاصرتين مأخوذٌ من كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية للمصنف، تحقيق محمد الطاهر الميساوي (عمَّان: دار النفائس، ط ٢، ١٤٢١/ ٢٠٠١)، ص ٢٦٤ - ٢٦٥.