للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحال الثاني: تخويل أهل العلم نشر آرائهم ومذاهبهم وتعليمها، مع اختلافهم في وجوه العلم، واحتجاج كل فريق برأيه ومذهبه، وحرصهم على دوام ذلك تطلبًا للحق؛ لأن الحق مشاع. ولقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك بن أنس: "إنني عزمت أن أكتب كتبك هذه (يعني باعتبار أبوابه) نُسخًا ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار بنسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدّوها إلى غيرها. فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ فإنّ الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كلُّ قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم، وإن ردَّهم عن ذلك شديد، فدَعِ الناس وما هم عليه". (١)

ولقد كان في مدة الدولة العُبَيْدِيَّة بالقيروان مذهبان متضادان تمام التضاد في أصول الدين وفروعه، وهما مذهبُ المالكية سكان البلاد، ومذهب الإسماعيلية من الشيعة، مذهب أهل الدولة. وكان علماء الفريقين ينشرون كتبهم، ويدرّسون مذاهبَهم، لا يصدّ أحدهم الآخر. ثم كان نظيرُ ذلك بمصر في عهد انتقال العُبَيْديّين إليها وتأسيس دولتهم الملقّبة بالفاطمية، وشواهدُ هذا كثيرة في تاريخ المذاهب.

لم يقتصر الإسلامُ في بذل حرية العلم على المسلمين، بل منح الحريةَ لأهل الملل الداخلين في ذمته وسلطانه. وقد كان اليهودُ في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُدَرِّسون التوراةَ في المِدراس بالمدينة، وجاء رسول الله إلى مدراسهم ودعاهم إلى الإسلام، كما هو ثابت في الصحيح. (٢)


(١) الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج ١١ (تكملة تاريخ الطبري)، ص ٦٦٠؛ اليحصبي: ترتيب المدارك، ج ١، ص ١٩٣. وذكر الطبري رواية أخرى (المصدر نفسه، ص ٦٥٩) مفادها أن الذي كلم مالكًا هو المهدي.
(٢) من الراجح أن المصنف يشير هنا إلى ما جاء عن الشعبي قال: "نزل عمر بالروحاء، فرأى ناسًا يبتدرون أحجارًا فقال: ما هذا؟ فقالوا: يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى هذه الأحجار، فقال: سبحان الله، ما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا راكبًا، مر بواد فحضرت الصلاة فصلى. ثم حدَّث فقال: إني كنتُ أغشى اليهودَ يوم دراستهم، فقالوا: ما من أصحابك أحدٌ أكرمُ علينا منك؛ لأنك تأتينا، =

<<  <  ج: ص:  >  >>