للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يخفى أن أهلَ القول الأول لا يثبتون متشابِهًا غير ما خفي المرادُ منه، وأن خفاء المراد متفاوت، وأن أهلَ القول الثاني يثبتون متشابِهًا استأثر الله بعلمه وهو أيضًا متفاوت؛ لأن منه ما يقبل تأويلاتٍ قريبة، وهو مما ينبغي أن لا يعد من المتشابه في اصطلاحهم. لكن صنيعهم في الإمساك عن تأويل آياتٍ كثيرة سهلٍ تأويلُها - مثل: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: ٤٨]- دل على أنهم يسدون باب التأويل في المتشابه. قال الشيخ ابن عطية: "إن تأويل ما يمكن تأويلُه لا يَعلم تأويلَه - على الاستيفاء - إلا الله تعالى. فمَنْ قال من العلماء الحذّاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويلَ المتشابه، فإنما أراد هذا النوع، وخافوا أن يظن آخر أن الله وصفَ الراسخين بعلم التأويل على الكمال". (١)


= والعبث. فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل العقلية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى، بل مراده غير ذلك الظاهر، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه، وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب، فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين، عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن". انظر هذا الكلام وباقي الحجج التي أومأ إليها المصنف في: التفسير الكبير، ج ٤/ ٧، ص ١٥٣ - ١٥٥.
(١) أورد المصنف كلام ابن عطية بتصرف واختصار شديدين، ونصه: "وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين: محكمًا ومتشابها. فالمحكم هو المتضح المعنى لكل مَنْ يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس، ويستوي في علمه الراسخُ وغيره. والمتشابه يتنوع: فمنه ما لا يعلم البتة، كأمر الروح، وآمادِ المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها، إلى سائر ذلك. ومنه ما يُحمل على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب، فيُتأول تأويلَه المستقيم، ويُزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم، كقوله في عيسى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: ١٧١] إلى غير ذلك، ولا يسمى أحد راسخًا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرًا بحسب ما قُدر له. وإلَّا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخًا. وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}، الضمير عائدٌ على جميع متشابه القرآن، وهو نوعان كما ذكرنا. فقوله {إِلَّا اللَّهُ} مقتضٍ ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء - يعلم نوعيه جميعًا. فإن جعلنا قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} عطفًا على اسم الله تعالى، فالمعنى إدخالُهم في علم التأويل لا على الكمال، بل علمُهم إنما هو في النوع الثاني من المتشابه، وبديهة العقل تقضي بهذا، والكلام مستقيم على فصاحة العرب. . . فالمعنى: وما يعلم تأويل المتشابه إلا الله، والراسخون كلٌّ بقدره وما يصلح له، =

<<  <  ج: ص:  >  >>