للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِدعَ المعاملات لمَّا كانت مشتملةً على معان وعلل لم تعدم أن تكون ظاهرةَ اللحوق بأحكام أمثالها، فلا تُعطى حكمًا متحدًا من كراهة أو حرمة أو غيرهما.

وأما العباداتُ فلما لم يكن للقياس فيها مدخل، كان حكمُ وقتها ومكانها قريبًا من حكمها. (١) فرأيُ مالك أن حكمها الكراهةُ مطلقًا، ومرادُه بالكراهة أنها يُثاب على تركها ولا يُعاقَبُ على فعلها. فكراهته الضحية عن الميت؛ لأن الشأن أن ذبح الحيوان ونحره ليس بعبادة في ذاته إلا في الضحية والهدي، وفيما عداهما لا يقصد الشارعُ إلا الصدقةَ باللحم أو بغيره، وليس الذبح بمقصود في ذاته. فالهدي عبادةٌ غيرُ خاصة بوقت، ولذلك صح نذره. والضحية سنة خاصة بيوم خاص،


= عبد الباقي بن يوسف: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (القاهرة: دار الحديث، ١٤٢٧/ ٢٠٠٦)، "كتاب الأقضية"، ج ٤، ص ٦١. وفي بيان أصل العمل بهذه القاعدة ذكر ابن فرحون أن محمد بن وضاح القرطبي (١٩٩ - ٢٨٧ هـ) قال: "قلت لسحنون: إن ابن عاصم (وكان محتسبًا بالأندلس) يُحلِّف الناس بالطلاق ويغلظ عليهم بذلك (إن ارتاب فيه)، فقال: ومن أين أخذها؟ فقلت له: من الأثر: تحدث للناس أقضية يقدر ما أحدثوا من الفجور، فقال: مثل ابن عاصم يتأول هذا"، "تعظيمًا لشأن ابن عاصم؛ لأنه روى عن ابن القاسم" وعن أشهب من أصحاب مالك. ابن فرحون: تبصرة الحكام، ج ١، ص ١٥٨؛ ج ٢، ص ١٢٦ و ١٧٠. وابن عاصم هو أبو الوليد حسين بن عاصم بن كعب، الثقفي القرطبي، من رواة العتبية وغيرها. توُفِّي سنة ٢١٨ هـ. وقد شنع ابنُ حزم على هذه المقولة وأنكرها، معتبرًا إياها عظيمة "من توليد مَنْ لا دينَ له، و [أنه] لو قال عمر ذلك لكان مرتدًّا عن الإسلام"؛ لأنه "لا يجيز تبديلَ أحكام الدين إلا كافر". وقد علق الدكتور إحسان عباس على المقولة المذكورة بقوله: "وهي كلمة حكيمة جليلة، لا كما فهم ابن حزم. فإن معناها أن الناس إذا اخترعوا ألوانًا من الإثم والفجور والعدوان، استحدث لهم حكامهم أنواعًا من العقوبات والأقضية والتعازير - مما جعل الله من سلطان للإمام - بقدر ما ابتدعوا من المفاسد، ليكون زجرًا لهم ونكالًا". ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام، ج ٦، ص ١٠٩.
(١) راجع مناقشة المصنف لمسألة التعليل ومراتبه ومجالاته في: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص ٢٣٩ - ٢٤٧ و ٣٤٦ - ٣٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>