للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يبين فرقًا بين ما أدخله القرافي من البدع في حكم الواجب والمندوب والمباح والمكروه فحاول عسفًا، وصار استدلالُه فيه خلفًا. (١)

ومن العجب أنِّي رأيتُ مَنْ يعوِّل على كلام الشاطبي ويرد به كلامَ القرافي، وهذا صنع باليد، وهلَّا عَكَسَ أو توقف؟ (٢) ثم إن كلام القرافي صريحٌ في أن الكراهة تُوصف بها البدعةُ في العبادة، كما مثل به القرافي، وكما رُوي عن مالك - رضي الله عنه - من قراءة القرآن على الميت. (٣) فمن العجب أن يزعم أبو إسحاق الشاطبي أن البدعة في العبادة لا توصف بالكراهة، وأن مراد مالك بالكراهة هنا الحرمة، فيخالف أصحابَ مالك وأئمة مذهبه قاطبة.

واعلم أن أبا إسحاق الشاطبي ألف كتاب "الاعتصام" في البدع، وحصر البدعة في إحداث ما من شأنه أن يرسمه الشارع للتعبد. وكأن رائده في ذلك أنه يحاول حملَ حديث "كل بدعة ضلالة" على ظاهر عمومه، ليحصر مسمّى البدعة فيما هو حرامٌ ليصح الحكم عليه بأنه ضلالة، ويريد التفصِّي من حمل لفظ البدعة على أصل معناه، وهو ما حدث بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث لم يجد محيصًا من الاعتراف بأن الحادثات بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعتريها الأحكام الخمسة، فلا يصح الحكمُ على عمومها بأنه ضلالة، فخصّ لفظَ البدعة بالمحدث في العبادة، وهو صنع باليد. ومن هنالك ترقَّى إلى الجزم بأن حكم هذا النوع التحريم، وأخذ يرتبها في دركات العصيان، وهي طريقة غريبةٌ لم يقل بها أحدٌ من أئمة المذهب. وأراه لا ملجأ له من أحد أمرين:


(١) انظر: كتاب الاعتصام، ج ١، ص ١٢٧ - ١٣٣.
(٢) أي أنه كان الأجدر ردُّ كلام الشاطبي بكلام القرافي، وإلا فالتوقف وعدم الخوض في الموضوع أَولَى. وقوله "منع باليد"، معناه - والله أعلم - الرد بدون دليل أو برهان، وإنما التعويل على مجرد التحكم.
(٣) قال سحنون: "قلت لعبد الرحمن بن القاسم: أي شيء يقرأ على الميت في قول مالك؟ قال: الدعاء للميت. قلت: فهل يقرأ على الجنازة في قول مالك؟ قال: لا". المدونة الكبرى، "كتاب الجنائز"، ج ١، ص ٢٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>