للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعلم أن أئمةَ مذهبه قائلون كلهم بجواز الوقف ولزومه. وقد اتفق علماء الأمة من المائة الثانية إلى الآن على عدم العمل بهذين القولين، وعلى ضعف مدرَكهما وتزييف الحديث الذي اعتضدا به. (١) واعلم أن المرادَ بالجواز هنا الجوازُ المقابل للمنع، أي ليس الوقفُ ممنوعًا. وليس المراد بالجواز الإباحة؛ لأن حكم الوقف الندب؛ لأنه عطية، ففيه نفعٌ للمعْطَى.

قال عياض في المدارك وابن رشد في المقدمات: قيل لمالك: إن شريحًا لا يرى الحبسَ، ويقول: لا حبس عن فرائض الله، فقال مالك: "رحم الله شُرَيْحًا! تكلم ببلاده ولم يدر ما صنع أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرد المدينة فيرى آثارَ الأكابر من


= الله، وصرفوا ملكهم عن الموقوف إلى الله. فليس في قولهم ذلك شبه بالسائبة، وكان ذلك عقدًا صحيحًا، فبطل قولُ أبي حنيفة: إن الوقف باطل شرعًا. ويترتب على البطلان عدمُ ترتب آثار العقد التي منها لزومُه للواقف، فهو عندهم باطل غير لازم، خلافًا لمن تأول عن أبي حنيفة أنه عنى عدم اللزوم لا البطلان الشرعي". ابن عاشور، محمد الطاهر: النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح (القاهرة: دار السلام، ١٤٢٨/ ٢٠٠٧)، ص ٨٦ - ٨٧. وقد كان محمد علي باشا حين عمل على إبطال الأوقاف ليستولي على الأراضي في مصر بذريعة أنها مملوكة للدولة اعتمد على فتوى استصدرها من مفتي الإسكندرية المعروف بالشيخ الجزايرلي، وجاء استفتاؤه إياه على النحو الآتي: "ما قولكم فيما إذا ورد أمرٌ أميري بمنع إيقاف الأماكن المملوكة لأهلها سدًّا لذريعة ما غلب على العامة من التوسل به لأغراض فاسدة من حرمان بعض الورثة، والمماطلة بالديون في الحياة، وتعريضها للتلف بعد الممات؟ هل يجوز ذلك، ويجب امتثالُ أمره، كيف الحال؟ أفيدوا". وقد جاءت فتوى الشيخ المذكور مبنيةً من أولها إلى آخرها على ما نُسب إلى ابن عباس وأبي حنيفة وشريح القاضي من قول ببطلان الوقف. واستنادًا إلى تلك الفتوى، أصدر محمد علي في ٩ رجب سنة ١٢٦٢ هـ أمرًا بمنع الوقف. انظر مزيدًا من التفاصيل في هذا الفصل من معركة الوقف في العصر الحديث في: أبو زهرة، الإمام محمد: محاضرات في الوقف (القاهرة: دار الفكر العربي، ٢٠٠٤)، ص ٢٦ - ٣٠.
(١) أما حديث "لا حبسَ عن فرائض الله"، فغير معروفٍ من غير احتجاج شريح. وأما حديث "لا حبْسَ بعد سورة النساء" فهو ضعيف؛ انفرد به البيهقي من رواية عبد الله بن لهيعة، وابن لهيعة ضعفه يحيى بن معين ووكيع. ولهم في هذا الحديث على تقديره تأويلاتٌ في المعنى تُطلب من كتب الحديث والفقه. - المصنف. وقد سبق منا توثيق الحديثين وذكر ما قيل فيهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>