المسلمون في العصور المظلمة إعراضًا عن الوقوف بأبواب أُناسٍ لا يَعبؤون بمصالحهم، ولا يعدون العدد لنوائبهم، وكرمًا عن مناقشتهم الحساب فيما جالت فيه أيديهم، فاعتبروا بيت المال كالمعدوم، وانبرى أهلُ الفضل منهم لإقامة مصالح العموم. وذلك مما يسجله لهم التاريخُ في مقام السخاء والشمم، والصبر على الأذى، واجتناب أسباب الفتنة والثورة وشق العصا.
فإذا نظرنا إلى الحبس باعتبار ما يعرض له من المقاصد السيئة نجده أنواعًا:
الأول: الحبس على المصالح العامة، المسمى بالحبس العام وبالخيري، وهذا لا يُتَّهمُ فاعلُه على قصد حرمان الوارث، ولا على تغيير المواريث.
الثاني: الحبس على نوع معين من الأجانب عن المحبس، وهذا قريب من الأول.
الثالث: الحبس على بعض الأبناء دون بعض، أو على شروط تخالف الفريضة، كاشتراط التَّأَيُّم في استحقاق الأنثى من البنات، واشتراط أن يكون الذكرُ والأنثى سواء. وهذا قد يُتَّهم فاعلُه بأنه تذَرَّع به إلى تغيير أحكام الميراث، فعاجل بإعطاء ماله لورثته على مقادير مخالفة لما يأخذونه لو مات. وهذه التهمة غير ملتفت إليها شرعًا؛ لأن تحويز العطية في حياته وصحته ينفي عنه قصدَ تغيير الميراث، إلا أناسًا لهم حالاتٌ نادرة لا يُلتفت إليها في التشريع. فليس الحبس مما اشتمل في ذاته على مفسدة معتبرة شرعًا؛ لأنه لو كان مشتملًا على مفسدة في ذاته لما أباحه الإسلام وندب إليه.
فبقي علينا أن ننظر هل طرأت على الحبس عوارضُ في عصرنا جعلته مشتملًا على مفسدة؟ وقد ادعى الفاضل المقترح أن الوقف مشتملٌ على مفاسد. ونحن لا نتكلم على المفاسد التي يؤذن كلامه باعتبارها ذاتية للوقف، مثل كون الوقف حجرًا على المستحق، وحجرًا للعقار الموقوف؛ لأن تلك الصفات ثابتة للوقف من وقت مشروعيته. وقد ألغتها الشريعة، فدل إلغاؤها على أن ما يُتخيل فيها من مفسدة الحجر أمرٌ وهمي، وقد أشرنا إلى إبطاله في كلامنا آنفا. وإنما نتكلم على ما يُشعر به