وأما إن دفعها في عين مماثلة لما رقم عليها كأخذ فرنكات عن ورقة رقم عليها أنها ذات فرنكات، فهنا اختل منه شرطُ اختلاف الجنس. إلا أنهم عللوا وجهَ القول بمنع بيع الدين بجنسه بأن الشأن فيه إن بيع بجنسه أن يباع بأقل، فيكون سلفًا بمنفعة. وهذا التعليل مبنيٌّ على ما هو متعارف في الديون؛ إذ لا يقصد مشتريها إلا الحطَّ من مقدارها، وإلا فما فائدةُ دفع مثل قيمتها مع أن أقل ما يكلفه الدين أن يسعى لطلبه من المدين؟
أما هذا النوع الذي نحن بصدده فإن مشتريه يقصد مقاصدَ شتى من قبض تلك الأوراق؛ لأن رواجها ورواج العين متساويان، فقد انتفت عنه علةُ المنع. وأما تبادلها مع غير مَنْ هي عليه - أعني صرفَ بعضها ببعض من أوراق "بانكة" واحدة - فهو بين الدين بالدين، لكن مع اتحاد الجنس.
والممنوع من بيع الدين مصوَّرٌ في كلام الفقهاء بما اختلف فيه المدينان، كأن يكون لزيد دينٌ على عمرو، فيبيعه لبكر، ويبيع بكر الذي له على خالد لزيد، ومعلَّلٌ بما فيه من الغرر؛ إذ لا يدري أي المدينين أسبق قضاء وأدوم ذمة وأقل مطلا. فإذا اتحد المدين، فقد انتفت الحقيقة؛ إذ لا بد في بيع الدين من تحقق ثلاثة أشخاص. ولا يقال إنه من ابتداء الدين بالدين؛ لأن حقيقته أن تعمر ذمةُ أحدهما في مقابلة تعمير ذمة الآخر، غير سابق تقرر أحد المدينين على الآخر، وهو الفرق بين ابتداء الدين بالدين، وبين كلٍّ من فسخ الدين في الدين وبيع الدين.
فابتداء الدَّيْن بالدين تعمر به الذمتان عند المعاوضة لا قبلها، كما في التوضيح وغيره. (١). ومن المعلوم أن هاته الأوراق ديونٌ متقررة سابقة على وقت المبادلة،
(١) المالكي: التوضيح، "كتاب البيوع، ج ٥، ص ٣٤٠؛ القرافي: الذخيرة، ج ٥، ص ٢٢٥؛ النفراوي، أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، نشرة بعناية عبد الوارث محمد علي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ١، ١٤١٨/ ١٩٩٧)، ج ٢، ص ١٦٣.