للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن المعلوم أن الغنى هو قلة الاحتياج للغير بأن يكون بيد صاحبه ما فيه فضلٌ عن قوام حياته بكيفية ثابتة، وذلك كنصاب الحبوب والأنعام، أو بيده ما يصلح أن يكون عوضًا لذلك وهو النقود التي اصطلح البشر على جعلُها أعواضًا لما يُطلب من الأعيان، وكلا القسمين يعتبره الناس مالًا ثابتًا قابلًا للنماء بذاته أو باستعماله.

ولا شك أن الديون المتقررة في الذمم الصحيحة هي أموالٌ ضرورةَ إمكان قبضها. وهذه الأوراق المالية وإن كانت ديونًا، إلا أنها قاربت النقدين في سرعة الرواج ودوامه، بحيث يُحصِّل مَنْ هِيَ بيده طلباتِه من دون احتياج إلى استخلاصها من ذمم مَن هي في ذمته، أعني البانكات، ومن دون احتياج المبذولة إليه إلى البحث عن ملاء أصحابها وصحة التداين بها. ولو قيل بإسقاط الزكاة عنها لتعطلت زكاةُ ثروة عظيمة عن المسلمين، وذلك ما لا يرضاه هذا الدينُ المبين.

[وبهذا يُعلم أن مَنْ أفتى بسقوط الزكاة عن هاته الأوراق قياسًا على سكة الجلود (١) لم يُصَوَّرْ له حقيقةٌ هاته الرقاع حتى يعلم الفرق بين بينها وبين المقيس عليه؛ لأن شرطَ القياس انتفاء الفارق المعتبر؛ لأن تلك الجلود مظلمة وليس لها رأس مال يرجع عليه، فلذلك لا مطمعَ لصاحبها في استخلاص مقدارها. وإن كانت أوراقُ البانكة قد شاركتها في اعتبار رواجها كرواج النقدين، فإنما ذلك لشدة ثقة الناس بالدين، كما علمت. على أن هذا الرواج لا يخرج ماهية الدين عن أصلها الشرعي، وإذا لم يزدها قوةً لا يُكسبها ضعفًا.


= في المآل، ويزيد في صلاح الأموال. وقد أفهم الشرعُ أنها شرعت للمواساة، وأن المواساة إنما تكون فيما له بالٌ من الأموال. فلهذا حدَّ النُّصُبَ كأنه لم ير فيما دونها محملًا لذلك، ثم وضعها في الأموال النامية". المازري: المعلم، ج ٢، ص ٥.
(١) سكة الجلود.

<<  <  ج: ص:  >  >>