وفي هذه الأيام المعدودة حملت السيدة الشريفة امنة بسيد هذه الأمة، وقد ادخرها القدر لأعظم أمومة في التاريخ، وتوالت عليها الرؤى والبشريات بجلال قدر هذا الجنين، فرأت فيما يرى النائم حين حملت به أنه خرج منها نور أضاء الأرض، وبدت منه قصور بصرى من أرض الشام، فقد روى أبو نعيم في «الدلائل» وابن سعد في «الطبقات» أن امنة قالت: «رأيت كأنه خرج مني شهاب أضاءت له الأرض، حتى رأيت قصور الشام» ، وما كانت هذه الرؤيا ومثيلاتها ليخفى تأويلها على السيدة امنة، وهي من هي ذكاء وفطنة، فقد فهمت أن من حملت به سيملأ الأرض نورا وضياء، وهدى ورحمة، وسيكون له شأن وذكر.
[وفاة عبد الله بن عبد المطلب]
ولم يطل المقام بالفتى الشاب عبد الله مع زوجته امنة بنت وهب، فقد خرج في تجارة إلى الشام وترك الزوجة الحبيبة، وما درى أنها علقت بالنسمة المباركة، وقضى الزوج المكافح مدة في تصريف تجارته، وهو يعدّ الأيام كي يعود إلى زوجته فيهنأ بها، وتهنأ به، وما إن فرغ حتى عاد، وفي أوبته عرّج على أخوال أبيه عبد المطلب وهم بنو النجار بالمدينة، فاتفق أن مرض عندهم، فبقي وعاد رفاقه، ووصل الركب إلى مكة، وعلم منهم عبد المطلب بخبر مرضه، فأرسل أكبر بنيه: الحارث ليرجع بأخيه بعد إبلاله، وما إن وصل الحارث إلى المدينة حتى علم أن عبد الله مات، ودفن بها في دار النابغة من بني النجار، فرجع حزين النفس على فقد أخيه، وأعلم أباه بموت الغائب الذي لا يؤوب، وأثار النبأ الموجع الأحزان في نفس الوالد الشيخ المفجوع في فقد أحب أولاده إليه، وألصقهم بنفسه، وأثار الأسى والحسرة في نفس الزوجة التي كانت تحلم بأوبة الزوج الحبيب الغالي، وتشتاق إليه اشتياق الظمان في اليوم الصائف القائظ إلى الشراب العذب الحلو البارد، وتبدّد ما كانت تعلّل به نفسها من سعادة وهناءة في كنف الزوج الفتى الوسيم، والذي كان مشغلة المجتمع القرشي والعربي حينا من الزمان، فما مثله من فتى، وما مثله من زوج!!