إن أجلب الناس وشدوا لرنّة ... مالي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنّه «١»
ويقول:
يا نفس إن لا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
وما زال يتقدم باللواء ويقاتل حتى قتل شهيدا رضي الله عنه.
ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، فقال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد المخزومي، فلما أخذ الراية قاتل قتال الأبطال حتى اندقت في يده تسعة أسياف، وما صبرت معه إلا صحيفة يمانية، واستعمل دهاءه وحنكته الحربية حتى انحاز بالجيش، وأنقذه من هزيمة منكرة كادت تقع، وكان الليل قد أقبل، فانتهز خالد هذه الفرصة وغير نظام الجيش، فجعل المقدمة ساقة، والساقة مقدمة، والميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، وصف صفا طويلا وراء الجيش، فلما أصبح الصباح أنكرت الروم ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وسمعوا من الجلبة، وقعقعة السلاح، ما قد ظنوا معه أنهم جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا، وما زال خالد يحاورهم ويداورهم، والمسلمون يقاتلونهم في أثناء انسحابهم بضعة أيام حتى خاف الروم أن يكون هذا استدراجا لهم إلى الصحراء، فتحاجز الفريقان وانقطع القتال.
[بلاء المسلمين]
وقد أبلى البطل خالد وأصحابه الأبطال بلاء حسنا في هذا اليوم، وبفضل ثباتهم وشجاعتهم تبدلت هزيمتهم نصرا، وأيّ نصر يرجى أكثر من صمود جيش تعداده ثلاثة الاف أمام جيش تعداده مائتا ألف، وانسحابهم وهم موفور والعدد محفوظو الكرامة، وإنه لشيء نادر في تاريخ الحروب أن يقف جندي واحد أمام
(١) أجلبوا: صاحوا. الرنة صوت ترجيع شبه البكاء. النطفة: الماء القليل الصافي. الشنة: السقاء البالي، فيوشك أن تهراق أو ينخرق السقاء، وضرب ذلك مثلا لنفسه في جسده.