ويرى بعض المؤرخين أن عرض الرسول عهد الصلح هذا لم يقصد به العرض حقيقة، وإنما سبرا لغور الأنصار، وتعرفا لمبلغ استعدادهم للذود عن المدينة، والتضحية بالنفس في سبيل العقيدة، وقد ظهر له صلى الله عليه وسلم أن الأخطار والمخاوف وتكالب عوامل الشر لم تزدهم إلا إيمانا وصلابة في الدفاع عن دينهم.
[الحرب خدعة]
إن الله سبحانه إذا أراد شيئا هيأ له الأسباب ويسّر له الوسائل، وقد ساقت الأقدار نعيم بن مسعود الأشجعي- وهو من غطفان- إلى رسول الله، وكان صديقا لقريش واليهود، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وقومي لا يعلمون بإسلامي، فمرني بأمرك حتى أساعدك.
وتفتّق العقل الكبير عن هذا التوجيه الرائع والإيمان إلى العمل السياسي البارع، فقال له:«أنت رجل واحد وماذا عسى أن تفعل؟ ولكن خذّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة»
» .
وكان نعيم عند حسن ظن النبي وأهلا لتوجيهه، فخرج من عند النبي وتوجّه إلى بني قريظة فقال: يا بني قريظة تعرفون ودّي لكم، وخوفي عليكم، وإني محدثكم حديثا فاكتموه عني، قالوا: نعم لست عندنا بمتهم، فقال: لقد رأيتم ما وقع ببني قينقاع والنضير، وإن قريشا وغطفان ليسوا مثلكم، فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإلا انصرفوا لبلادهم، وأما أنتم فتساكنون الرجل- يريد الرسول- ولا طاقة لكم بحربه واحدكم، فأرى ألاتدخلوا في هذه الحرب حتى تستيقنوا من قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بلادهم، بأن تأخذوا منهم رهائن سبعين شريفا منهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه. فاستحسنوا رأيه وقالوا: قد أشرت بالرأي.
(١) خدعة بفتح المعجمة وضمها مع سكون المهملة، وبضم أوله وفتح ثانيه وهي أشهر لغاتها، وأفصحها الأولى حتى قال ثعلب: إنها لغة النبي. ومعنى الأولى أن الحرب تنتهي بخدعة واحدة، والثانية أن الشأن في الحرب الخداع، والثالثة صيغة مبالغة أي كثيرة الخداع.