فتتابع إليه الناس يبشرونه بتوبة الله عليه، وأرادوا أن يحلوه فأبى وقال:
لا يحلّني إلا رسول الله، فلما خرج الرسول إلى صلاة الفجر حلّه من رباطه، ولم يكتف أبو لبابة بما صنع بنفسه وقال: يا رسول الله إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله، فقال النبي:
«يجزيك الثلث» فتصدق به.
وإن لنا هنا لوقفة ترينا مبلغ قوة الإيمان، وتذكر القلب، ويقظة الضمير من صحابة رسول الله، الذين إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وسرعان ما يتوبون، ومبلغ ما وصل إليه المجتمع الإسلامي حينئذ من حياء من المعاصي والرذائل، وتقدير للقيم الخلقية، والمعاني الروحية، واستهانة بالنفس والولد والمال في سبيل رضاء الله ورسوله، وأن هذا المجتمع لم يصل إليه أي مجتمع متحضر إلى وقتنا هذا.
[نزول بني قريظة على حكم رسول الله]
فلما لم ير بنو قريظة فائدة من تحصنهم، وأنهم لا ناصر لهم من دون الله، عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم معاملة بني النضير، فأبى إلا أن ينزلوا على حكمه ففعلوا، فأمر برجالهم فكتفوا، ثم سعى إلى رسول الله رجال من الأوس راجين أن يعاملهم معاملة بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج، فقال لهم السيد الحكيم:«ألا يرضيكم أن يحكم فيهم رجل منكم» ؟ فقالوا: بلى، فاختاروا سعد بن معاذ- وكان في خيمة في المسجد النبوي معدة لمعالجة الجرحى وتمريضهم بسبب سهم أصيب به في الخندق- فأرسل رسول الله في طلبه، فجاء
(١) تفسير ابن كثير والبغوي، ج ٤ ص ٢١٢. والاية هي ١٠٢ من سورة التوبة.