ولا عجب فقد استولى على نفس عتبة ما سمعه من هذا الكلام الفصيح البليغ، حتى استند على يديه واستغرق في التأمل، وهو العربي الأصيل، وحتى خيل إليه حين سمع هذا الإنذار أن العذاب واقع به وبهم.
[ما أشار به عتبة على قريش]
وعندما سمع عتبة ما سمع قام ورجع إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به «١» ، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله- ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه!! قال:
هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم.
وقد ظنوا إثما وزورا، فما كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه طالب ملك، ولا راغبا في مال، ولا ناشدا جاها ولا سلطانا، وإنما هو نبي يوحى إليه من ربه، ومبلغ رسالة، ومنشىء أمة، ومنقذ البشرية من التردي في هوّة سحيقة، وصانع تاريخ، ومؤصل حضارة. إنها لشهادة حقة، لأنها من عدو لم يؤمن بالقران، وإنما امن بسلطان اللغة والبيان.
(١) هذا من بديع الكلام الدال على علم بالنفس البشرية، وظهور ما يكون بالنفس على قسمات الوجه، وأن العرب كانوا على علم ببعض قواعد علم النفس.