وممن كان يرى هذا الرأي السادة الأخيار: أبو أيوب الأنصاري، وأبو طلحة الأنصاري، والمقداد بن الأسود من الصحابة، وسعيد بن المسيّب من التابعين. وقد كان أبو أيوب يستدل بالاية السابقة، وكان يرى أن الرغبة عن الجهاد والاشتغال بالأهل والمال إلقاء بالنفس إلى التهلكة، مستدلا بقول الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «١» .
وقد لزم رضي الله عنه الجهاد في حياة الرسول وبعده، ولم يتخلّف عن غزوة قط، ولما حدثت الفتنة بين علي ومعاوية انحاز إلى جانب علي، وشهد معه قتال الخوارج، ولما أرسل معاوية ابنه يزيد على رأس جيش لغزو القسطنطينية تحرج في أول الأمر أن يخرج في جيش تحت إمرة يزيد، ولكن نفسه التواقة للجهاد نازعته إليه وقال:(ما ضرني من استعمل على الجيش) ، فلحق بهم وأبلى بلاء حسنا، ثم مرض فعاده يزيد فقال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي إذا أنا متّ، فاركب بي ما وجدت مساغا في أرض العدو، فإذا لم تجد فادفني ثم ارجع، فلما توفي صلّى عليه يزيد والمسلمون، وفعلوا به ما أوصى به، فدفن بجوار أسوار القسطنطينية شاهدا على لون رائع من ألوان البطولة الإسلامية الفذّة، وكانت وفاته سنة اثنتين وخمسين، فرضي الله عنه وأرضاه.
وروي أن أبا طلحة الأنصاري صاحب رسول الله وأحد الذين أحاطوا بالنبي يوم أحد، قرأ سورة التوبة وهو شيخ كبير، فأتى على هذه الاية: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا..، فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا جهزوني يا بنيّ، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فركب البحر غازيا، فمات، فلم يجدوا جزيرة يدفنونه بها إلا بعد تسعة أيام ولم يتغير، فدفنوه بها.