ليال حتى رماه الله بمرض العدسة فقضى عليه، وكانت قريش تتّقي هذا المرض، فتركه ابناه بعد موته ثلاثا حتى أنتن، فقال لهما رجل من قريش:
ألا تستحيان، إن أباكما قد أنتن في بيته، ألا تدفنانه؟ فقالا: إنا نخشى عدوى هذه القرحة، فقال: انطلقا وأنا أعينكما عليه، فغسلوه قذفا بالماء من بعيد ما يدنون منه، ثم احتملوه إلى أعلا مكة فأسندوه إلى جدار ثم ردموا عليه الحجارة. وهكذا شاء الله سبحانه وتعالى أن يموت هذه الميتة الشنيعة لعداوته للرسول ومناهضته للإسلام، وعدم رعايته للرحم حرمة.
ومكثت قريش تنوح على قتلاها مدة، ثم تواصوا فيما بينهم وقالوا:
لا تفعلوا، يبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم. وكذلك تواصوا ألايسرعوا في بذل الفداء، وقالوا: لا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم، لا يأرب «١» عليكم محمد وأصحابه في الفداء، وكان هذا من تمام ما عذّب الله به أحياءهم في ذلك الوقت، فإن البكاء مما يبل فؤاد الحزين، ويخفف من لوعة الحزن وهول المصاب، وكان الأسود بن المطلب قد أصيب في ثلاثة من ولده: زمعة، وعقيل، والحارث، فقال لغلام له: هل بكت قريش على قتلاها لعلّي أبكي على ولدي، فإن جوفي قد احترق.
[افتداء الأسرى]
ولم تطق قريش الصبر على ما اتفقوا عليه من عدم التسارع إلى الفداء، وانسلوا واحدا وراء الاخر، وقد كان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاءكم في طلب فداء أبيه» ، فلما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم، قال المطلب بن أبي وداعة: صدقتم لا تعجلوا، وكان هو أول من نقض هذا، فانسل من الليل وقدم المدينة، وفدى أباه بأربعة الاف درهم، وكان هذا أول أسير فدي، ثم بعثت قريش في فداء أسراهم.
(١) قال في النهاية في تفسير هذا الخبر: أي يتشدّدون عليكم في طلب الفداء.