للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلا فطرته وحسه، ولكن التقاليد المتسلطة، والعصبيات الموروثة، وإرضاء قومه غلبت عليه، فلم يقدر أن يتحرر منها، حتى جعلت الرجل يناقض نفسه بنفسه!!

وإن نظرة فاحصة في الايات: إِنَّهُ فَكَّرَ، وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. لتصور لنا تصويرا دقيقا، بارعا صادقا ما حدث بين الرجل وبين نفسه من صراع عنيف، كأقوى ما يكون الصراع وأعنفه، ففطرته اللغوية، وحسه البياني، ووجدانه الأدبي، كلها تأبى عليه أن يقول غير ما قال أولا، وإرضاء قومه، وخوفه من قالة السوء عنه، وحرصه على الزعامة والرياسة كلها تلح عليه إلحاحا بالغا في أن يقول قولا منكرا في القران يخالف قوله الأول، وأخيرا وبعد نظر وعبوس وتقطيب للوجه ثم تقطيب تنم عن ضيقه النفسي بما سيقول، قال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ! ولو أنك أتيت بأبرع الفنانين العالميين اليوم ليرسم للوليد صورة معبرة عن هذا الصراع النفسي الذي بدت اثاره على وجه الوليد وجبهته، لما بلغ ما بلغه القران الكريم في إبراز هذه الصورة بألفاظ متخيرة، وجرس معبر، لا بريشة وظلال، فلله در التنزيل ما أفصحه وأبلغه!!

[تهكم أبي جهل بالقران]

ولما نزل قوله تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قال أبو جهل: يا معشر قريش يزعم محمد أن جنوده الذين يعذبونكم في النار، ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا، وكثرة، أفيعجز كل مئة رجل منكم عن رجل منهم؟

فأنزل الله سبحانه ردا عليه قوله:

وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) «١» .


(١) الاية ٣١ من سورة المدثر.

<<  <  ج: ص:  >  >>