للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن لنا هنا لوقفة ترينا كيف يبلغ السمو النفسي والخلقي بصاحبه، وترينا كيف قبل النبي على جلالته عن طيب خاطر أن يقتصّ أحد المسلمين من نفسه، وهو غاية ما يطمع فيه من عدل في هذه الحياة، وترينا أيضا كيف بلغ حب هؤلاء الصحابة للرسول وتكريمه وتقديسه في نفوسهم، قداسة لا تخل بدين ولا عقيدة، فهذا سواد وقد حضر موطن الشهادة يريد أن يحظى بلمسة من جسد الرسول، لأنه يرى فيها ثلج الصدر، وطمأنينة القلب وغذاء الروح!!

[وصاة النبي للمسلمين]

وتزاحف الناس من الفئتين، ودنا بعضهم من بعض، وأخذت جموع المشركين الغفيرة تنحدر نحو معسكر المسلمين، والمسلمون ثابتون في مكانهم، وذلك عملا بنصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قال لهم: «لا تحملوا حتى امركم، وإن اكتنفكم القوم فانضحوهم بالنبل، ولا تسلّوا السيوف حتى يغشوكم» ، وقد بلغ النبي الغاية في السياسة الحربية بهذه الخطة الحكيمة، إذ أن معسكر المسلمين يكاد يكون خلوا من الخيل التي لابدّ من وجودها في الهجوم، هذا إلى قلة عددهم وكثرة عدد عدوهم، فكان لابدّ من اتباع خطة الدفاع بدل الهجوم.

[إشفاق ودعاء]

وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العريش ومعه صاحبه الصدّيق، وسعد بن معاذ على باب العريش شاهرا سيفه، وكان رسول الله أشد ما يكون إشفاقا على المسلمين وهم قليل، وأخوف ما يكون من مصير هذا اليوم الذي له ما بعده، واتجه النبي بقلبه وصدق إخلاصه إلى ربه، مناشدا إياه ما وعده، ومستنزلا النصر والمدد لأصحابه، قائلا: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد في الأرض أبدا» ، وما زال يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر فرده على منكبيه ثم قال:

(يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك) .

وأخذت النبي سنة وهو في العريش ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، فقد

<<  <  ج: ص:  >  >>