إن المتأمل فيما قام الأنصار رضي الله عنهم تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه المهاجرين ليتعجب مما فعله هؤلاء القوم، ولو ذهب يتلمّس الأسباب، فلن يجد إلا سبب الأسباب، وهو أن ذلك كان بفضل الله ورحمته لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث يقول:
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ «١» .
فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالا، ولم يكن بين دخولهم في الإسلام وقيامهم بهذه الماثر إلا أقل من عام!! وقد سمعت فيما مضى طرفا من لقائهم للرسول وإكرام وفادته.
ولم يكن شعورهم تجاه إخوانهم المهاجرين بأقل من هذا، فقد فتحوا لهم قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم حتى لم يجدوا بدا في بعض الأحيان من تحكيم القرعة بينهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلا عليا لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة بالإكبار والإعظام.