للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وابتلي في هذا أشد الابتلاء، ولكن كل ذلك لم ينل من نفسه، ولا وهن من عزيمته، وتصميمه على أداء رسالته، وتحمل في ذلك ما تنوء به الجبال الراسيات، فكان في ذلك القدوة الحسنة لأصحابه، والسلوى إذا حزبهم الأمر، واشتد بهم الكرب، وعظم البلاء.

[قصة أبي جهل والفحل من الإبل]

وقد حمل كبر هذا الإثم أبو جهل فرعون هذه الأمة، فقد قال: يا معشر قريش، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم ابائنا، وتسفيه أحلامنا، وسبّ الهتنا، وإنّي أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر، فإذا سجد في صلاته فدخت به رأسه. فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم.

فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا، ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا رسول الله يصلّي بين الركنين: الأسود واليماني، وغدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه متلصصا، حتى إذا دنا منه رجع منبهتا، منتقعا لونه، مرعوبا قد يبست يداه على حجره من الخوف حتى قذف الحجر من يده، فقام إليه رجال من قريش، فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم؟! قال: قمت إليه لأفعل ما صممت عليه البارحة، فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته «١» ولا أنيابه لفحل قط، فهمّ أن يأكلني. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذلك جبريل، ولو دنا منه لأخذه» .

مرة أخرى: وفي مرة أخرى قال: إنّ لله عليّ إن رأيت محمدا ساجدا لأطأنّ عنقه، ولأعفرنّ وجهه بالتراب، فأتى رسول الله ليطأ رقبته، فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقا من نار، وهولا، وأجنحة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة» .


(١) القصرة: العنق.

<<  <  ج: ص:  >  >>